الإيمانية، بل بسطوها حتى وسعت كل ما خاض فيه اليونان وغير اليونان من مسائل الإلهيات والطبيعيات مما يتصل بمبادئ الموجودات والجسمانيات والروحانيات التى وراء الطبيعة والعناصر المكونة للمحسوسات وكل ما تنبعث عنه الحركات فى الكون والنفس الإنسانية. وبذلك تحوّل الاعتزال فى هذا العصر إلى ما يشبه كنزا فلسفيّا سائلا ما يزال يرفد الفكر العربى بدرره وجواهره، وتحوّل شباب الشعراء وغيرهم يستمدون منه عتادا لعقولهم ومادة خصبة لخواطرهم، مما جعل أبا نواس وغيره يلوكون بعض مصطلحاتهم.
وكان من المعتزلة أنفسهم شعراء كثيرون شاركوا فى مجال الشعر، ومشاركتهم فيه تأخذ وجهتين: وجهة عامة فهم ينظمون فيما ينظم فيه غيرهم من موضوعات الشعر وأغراضه، ووجهة خاصة فهم ينظمون فى الاحتجاج لآرائهم الكلامية وفيما يتصل بها من بعض المباحث فى الطبيعة، وكثيرا ما يردّون على خصومهم من أصحاب النحل المختلفة. وأقدم شاعر منهم يلقانا فى فاتحة هذا العصر صفوان الأنصارى تلميذ واصل بن عطاء ونراه يتصدّى لبشار حين عرف فيه أستاذه إلحاده ونادى فى الناس أن يقتلوه، لقوله بالرجعة ولتفضيله النار على الطين وبالنالى إبليس على آدم معتذرا له عن عصيانه لربه حين طلب إليه السجود له، فأبى وآب بالكفر والعصيان والخذلان. ولصفوان فى تصديه لبشار موقفان: موقف يمدح فيه واصلا ويتحدث عن أتباعه وذبّهم عن الدين وحرماته وما أوتوا من الفصاحة واللدد فى الخصومة، وكيف يضربون فى أقطار الأرض داعين للإسلام ولعقيدتهم، مستطردا إلى وصف سيمائهم ونسكهم وتقشفهم، وفيهم وفى أستاذهم يقول:
تلقّب بالغزّال واحد عصره ... فمن لليتامى والقبيل المكاثر (١)
ومن لحرورىّ وآخر رافض ... وآخر مرجىّ وآخر جائر
وأمر بمعروف وإنكار منكر ... وتحصين دين الله من كلّ كافر
له خلف شعب الصّين فى كل ثغرة ... إلى سوسها الأقصى وخلف البرابر
(١) لقب واصل بالغزال لأنه كان يكثر الجلوس فى سوق الغزالين، وعلل المبرد لذلك بأنه كان يريد الوقوف على المتعففات من النساء ليصرف صدقته إليهن. وانظر فى الأبيات البيان والتبيين ١/ ٢٥ وما بعدها.