للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذه النكبة سحابة صيف عن قليل تقشّع، ولن يريبنى-من سيدى-أن أبطأ سيبه (عطاؤه). . فأبطأ الدّلاء فيضا أملؤها، وأثقل السحائب مشيا أحفلها (أملؤها) وأنفع الحيا (الغيث) ما صادف جدبا، وألذّ الشراب ما أصاب غليلا».

وابن زيدون-فى مطلع رسالته-يسترحم جهورا مستعطفا، فطالما أثنى عليه وطالما ظن أنه سيسبغ عليه نعمه، فإذا هو ينزل به عقابا أليما. ويتجلّد للنكبة، ويحاول أن يسرّى عن نفسه، ويخال كأنه يد أدماها سوارها أو جبين عضّه تاجه أو سيف ركزه صاقله فى الأرض أو رمح سوّاه على النار صانعه. ويمنى نفسه بأن نكبته سحابة صيف ستنجلى ويعود إلى سماء الود الصّحو والصفاء، وإذا كان عطاء جهور على ثنائه ومديحه أبطأ فإن أبطأ الدلاء فيضا أغزرها وأثقل السحاب مسيرة فى السماء أملؤها، وأنفع الغيث ما صادف أرضا مجدبة، وألذ الشراب ما صادف نفسا ظامئة، ويستمر فيهوّن من ذنبه مخاطبا جهورا بقوله:

«ليت شعرى ما هذا الذنب الذى لم يسعه عفوك، والجهل الذى لم يأت من ورائه حلمك. . وما أرانى إلا أمرت بالسجود لآدم فأبيت واستكبرت، وقال لى نوح: اركب معنا فقلت: (سآوى إلى جبل يعصمنى من الماء)، وأمرت ببناء الصّرح (لعلّى أطّلع إلى إله موسى) وعكفت على العجل، واعتديت فى السّبت، وتعاطيت فعقرت، وشربت من ماء النهر الذى ابتلى به جنود طالوت، وعاهدت قريشا على ما فى الصحيفة، وانخذلت بثلث الناس يوم أحد، وتخلّفت عن صلاة العصر فى بنى قريظة، وجئت الإفك على السيدة عائشة الصّدّيقيّة، وأنفت من إمارة أسامة، ومزّقت الأديم (١) الذى باركت يد الله عليه، وضحيّت بالأشمط (٢)، ورجمت الكعبة (٣)».

وهو يقول كأننى اقترفت كبيرة مثل كبيرة إبليس حين استكبر وأبى السجود لآدم معلنا عصيانه لربه، أو ارتكبت ما ارتكبه ابن نوح حين عصى أمر أبيه فلم يركب معه فى السفينة فكان من المغرقين، أو كأنه ارتكب جريرة فرعون حين أمر وزيره هامان أن يبنى له صرحا لعله يرى إله موسى، أو جريرة بنى إسرائيل حين عبدوا العجل وحين اعتدوا فى يوم السّبت فصادوا فيه، أو جريرة عاقر ناقة صالح {(فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ)} وأهلكهم، أو جريرة جنود طالوت الذى حرّم عليهم الشرب من نهر فخالفوه، أو جريرة


(١) يشير إلى مقتل عمر بن الخطاب.
(٢) الأشمط: عثمان بن عفان.
(٣) راجم الكعبة الحجاج فى حربه لابن الزبير.

<<  <  ج: ص:  >  >>