للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واعتمادى بالخيانة من حيث الثقة. . وقد غيّر علىّ حتى شرابى، وأوحشنى حتى ثيابى، فها أنا أتّهم عيانى، وأستريب من بيانى، وأجنى الإساءة من غرس إحسانى. .

وما أصنع؟ وقد أبى القضاء إلا أن أقضى عمرى فى بوس ولا أنفكّ من نحوس. .

لست أشكو إلا زمانى وقعوده بجدّى (١)، وقبيح آثاره عندى، يخصّنى بمزية حرمان، ويتوخّانى بفضلة عدوان، ويجعلنى نصب سعيه، وغرض رميه، ومكان أذايته وبغيه. .

ما أجد إلا من يثلب، ولا أمرّ إلا بمن يتجهّم ويقطّب. . وسبحان من جعل الدنيا دار كرب ومحنة، لكل ذى لبّ وفطنة، ومقام تنعّم وترف، لكل ذى خسّة ونطف (٢). . وما أظن أن لدجى حالى انبلاجا، ولا لكربة نفسى انفراجا، ولا إخال غمرات الهمّ تنجلى، ولا مدد النحوس تنقضى، ومن كانت له من الدنيا حظوة يصطفيها، ومكانة يستقر فيها، فليس لى منها إلا أن أرى كيف تنقسم رتبها وتتناوب، وتتنازع نعمها وتتجاذب، وتغتنم فوائدها وتتناهب، حتى كأنى جئت على العدد زائدا، ولم أكن عند القسمة شاهدا، وما أقول هذا قول ساخط، ولا أيأس من رحمة الله يأس قانط، ولكن ربما استراح العليل فى أنّة، واستغاث المتوجع إلى رنّة (٣)، وخفّف عن المصدور نفث (٤)، ونفّس من وجد المكروب بثّ (٥)».

وهو يطيل فى مثل ذلك صادرا عن قريحة أدبية خصبة، وكأنما سيول الكلام العذب تفد عليه من كل صوب، وهو يختار أسلس الألفاظ وأحلاها فى الجريان على الألسنة ومصافحة الأسماع والقلوب، مما يصور براعة أدبية حقيقية، إذ يمتع دائما بألفاظه ومعانيه الألسنة والآذان والأذهان. وله من تهنئة:

«قد كنت-أعزّك الله-متمنيا لهذه الأيام، كما يتمنّى فى المحل (٦) صوب الغمام، ومنتظرا لظهورك فيها، كانتظار النفس أعذب أمانيها، ولما أطلعت طلائعها السعود، واستمرّ بك الارتقاء والصعود، قلت لنفسى بشراك، وأسعفك الدهر بمناك، وسرّك فى بعض أعزّتك وأرضاك، وأذنى فى الإصغاء، إلى ما يطرأ من الأنباء، وكلما قيل فرع (٧) من الجاه ذروة، واستجدّ من العزّ كسوة، سرت العزّة فى خلدى (٨)، وطالت (٩) على النّوب يدى»


(١) جدى: حظى.
(٢) نطف: عيب.
(٣) رنة: صيحة.
(٤) نفثة المصدور: ما يخفف به عن صدره المريض.
(٥) البث: ما يبثه المكروب والمحزون تخفيفا عنه.
(٦) المحل: الجدب.
(٧) فرع: علا.
(٨) الخلد: البال والفكر.
(٩) طالت: غلبت وتفوقت.

<<  <  ج: ص:  >  >>