للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بحصن قريب من مرسية يسمى «منت أقوط» وسوّلت له نفسه أن يخلع ولاءه للمعتمد ويستقل بمرسية، فسلّط عليه قائده عبد الرحمن بن رشيق، فاستخلصها منه. وتوسط لديه أبو بكر بن عبد العزيز الوزير ببلنسية، كى يرد إلى ابن طاهر حريته، فردّها عليه.

وعاش ابن طاهر بقية حياته ببلنسية مبجّلا معزّزا، وشهد محنة المسلمين بها سنة ٤٨٧ على يد الفارس الإسبانى المغامر السيد الكنبيطور، ووقع-بعد بلاء مبرور فى حربه-بأسره، وافتدى وأطلق سراحه، ولم يبرح بلنسية إلى أن استردها المرابطون سنة ٤٩٥. ومدّ له فى البقاء إلى أن توفى ببلنسية سنة ٥٠٨ للهجرة.

وهذه الحياة الطويلة التى امتدت بابن طاهر إلى نحو تسعين عاما أمضى منها فترة معاونا لأبيه فى حكم مرسية وفترة ثانية فى حكمها وفترة ثالثة قصيرة معتقلا ثم فترة طويلة ببلنسية معززا موقّرا. وهذه الحياة المديدة أتاحت له أن تتكاثر المكاتبات بينه وبين أمراء الطوائف، يخطبون وداده، وهو تارة يثنى ويشكر، وتارة يعاتب أو يشفع أو يعزى أو يهنّى، وقد اهتزّ هزة عنيفة لأوائل حكمه مرسية حين نكل النورمانديون بأهل بربشتر فى الشمال الشرقى لسرقسطة سنة ٤٥٦ وأنزلوا بهم مذبحة-كما مرّ بنا- تقشعر لهولها الأبدان وسبوا منهم خمسة آلاف من النساء والعذارى وباعوهم فى الأسواق بيع الإماء، وما إن علم بذلك حتى ضاقت به الأرض بما رحبت، وأخذ يكتب لأقرانه كى يكيلوا للعدو الغاشم الصاع صاعين، ومن قوله فى وصف هذا الحادث المروّع:

«خطب أطار الألباب، وطأطأ الرقاب، وقطع الآمال والهمم، وأسلم من الذلّة والقلّة إلى ما قصم، فما شئت من دمع مسفوح مراق، ونفس متردّدة بين لهاة وتراق (١)، وأسى قد قرع حصيّات القلوب فرضّها (٢)، وعدل عن المضاجع بالجنوب فأقضّها (٣)». ويقول من رسالة أخرى مستنفرا للجهاد:

«ليندب الإسلام نادب، وليبك له شاهد وغائب، فقد طفئ مصباحه، ووطئ ساحه، وقصّ جناحه، وهيض (٤) عضده، وغيض ثمده (٥)، إلى الله نفزع، وإليه نضرع، فى طارق الخطب ومنتابه، ولا حول ولا قوة إلا به، فهو كاشف الكروب، وناصر المحروب».


(١) التراقى: جمع ترقوة: أعلى الصدر. اللهاة: أقصى سقف الحلق.
(٢) رضّها: دقها.
(٣) أقضها: جعلها لا تريح النائم بجنبه فيها.
(٤) هيض: تحطم.
(٥) غيض ثمده: جفّ ماؤه القليل.

<<  <  ج: ص:  >  >>