للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحين ردّت إليه حريته وأطلق من معتقله بفضل وساطة أبى بكر بن عبد العزيز الوزير ببلنسية واستجاب إلى رغبته فى المقام عنده كتب وهو فى طريقه إليه رسالة يقول فى فصل منها:

«كتابى وقد طفل (١) العشىّ، وسال بنا إليك المطىّ (٢)، ولها من ذكرك حاد، ومن لقياك هاد، وسنوافيك المساء، ونغتفر للزمان ما قد أساء، ونرد ساحة الأمن، ونشكر عظيم ذلك المنّ، فهذه النفس أنت مقيلها (٣)، وفى برد ظلّك يكون مقيلها (٤)، فلله مجدك وما تأتيه، لا زلت للوفاء تحييه وتحويه»

وكانت فى ابن طاهر دعابة لم تفارقه حتى فى أيام محنته بالاعتقال، وله فى ذلك- كما يقول ابن بسام-عدة نوادر أحر من الجمر وأدمغ من الصخر، ويروى منها أن ابن أخت لعبد الرحمن بن رشيق كان ذا لحية طويلة، وطلعة ثقيلة، وقف عليه يوما فى اعتقاله، فجعل يتفجع له ويتوجع، ويتملّق معه ويتصنّع، فقال له ابن طاهر: خلاصى بيدك إن شئت، فإنك لو أخرجتنى فى لحيتك لتخلصت ولم يرنى أحد. وكتب إليه رجل يتزهد، وأطال الوعظ وردّد، وهو يعرف أنه على الضّدّ من وعظه، فأجابه:

«ورد كتابك فوعظ وذكّر، ونصح فبصّر، ونبّه من سنة الغفلة، واغترار المهلة، وحذّر من يوم النّدامة، وبعث يوم القيامة، فيرحمك الله من هاد، وخائف معاد، ومبتغى إرشاد، وداع إلى صلاح وسداد، لقد حرّكت أنفسا قاسية، وهززت جندلة راسية، ومعولك دونها ناب، لا يؤثر فيها بظفر ولا ناب»

ودائما يسيل الكلام على لسان ابن طاهر فى خفة ورشاقة وعذوبة، وفى الذخيرة من ذلك بدائع وروائع يقول ابن بسام بعقبها: «أبو عبد الرحمن أكثر إحسانا، وقد وهب الطروس من ألفاظه ما يفضح العقود الدّرّيّة، وتعسعس (٥) معه الليالى البدرية».


(١) طفل العشىّ: مال للغروب العشى وهو آخر النهار.
(٢) المطى: الإبل.
(٣) مقيلها: منحّيها أى عما كانت فيه من اعتقال.
(٤) مقيلها: مكان راحتها.
(٥) تعسعس: تظلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>