كل قائد فيها بمنطقته غادرها إلى الأندلس، واستوطنها، وفيه يقول ابن بسام:«أحد أدباء وقته المشاهير، وكلامه يعرب عن أدب كثير وحفظ غزير». ويعرض طائفة من فصول رقاعه ورسائله، من ذلك فصل من رقعة وجّه بها إلى ابن الشامى متولى الأرض التى كانت تتملكها الدولة فى المدن التى افتتحت عنوة، راغبا فى أن يكلّم له أمير صقلية صمصام الدولة آخر الأمراء الكلبيين الذى تولى الجزيرة بعد أخيه الأكحل سنة ٤٢٧ كى يحرّر له أرضا للدولة كان اشتراها مما عليه من ضريبتها، وربما من دين للدولة كان لا يزال مدينا به، ويمضى صدر الرسالة على هذا النمط:
«إذا الحاجات عىّ بها رجال ... وكان قضاؤها صعب المرام
وقلّت حيلة الشفعاء فيها ... فحاول نجحها ببنى الشآمى
درارىّ العلا حفّت ببدر ... منير فى سماء المجد سامى
ويعلم-أدام الله تمكينه-مذهبى فى التخفيف، وحمل مئونة التكليف، إلا فيما تلجئ الضرورة إليه، ويحمل الاضطهاد عليه، وكنت من ترفيه النفس عن الامتهان، والقناعة بما تسمح به نفس الزمان، فى حالة يعلم-حرس الله مجده-تقلّبى فى أثنائها، ومقيلى (قيلولتى) فى أفيائها (ظلالها) حتى عرض لى من سوء القضاء، ما أجار بالنار من الرّمضاء (شدة الحر) فسوّل لى الحرص الذى ما شمت (رأيت) له بارقا، والطمع الذى ما ركبت قط له عاتقا (منكبا) النظر فى إحداث بستان فى خرائب أخربت مالى، وشغلتنى عن كثير من أشغالى، وصرت منفقا ما جمعت فى الغربة والوطن، وكسبت فى الإقامة والظّعن (الارتحال) بين جدار فيها أهدمه، وغار أردمه، وأرض أرفع مرة وهادها، وأخفض تارة نجادها (مرتفعاتها) حتى استوت ساحاتها وتوطّدت (تمهدت) وغابت مغاراتها وتغطّت، وانكشطت أسنمتها وانحطّت، . . ولا يقدر على سقى دوحاته، ولا يتوصّل إلى إحياء مواته، إلا بدولاب (ساقية) وجابية (حوض) يأخذان الماء أخذة رابية (شديدة). . ومتى أعلم الأمير أن هذه الخرائب التى عانى وليّه غراسها لا يرتجى لها عمارة تعود بفائد، ولا ينتفع الديوان منها بدرهم واحد، وساكنوها منذ أعوام ما أدّى واحد منهم خراجا، ولا صنع لبيته بابا ولا رتاجا (بابا كبيرا) فهم بين قوم يأكلون الشجر قبل الثمر، ويرعون الأبّ (الحشائش) قبل الحب».
والرسالة قطعة أدبية بديعة، وهى مكتوبة بأسلوب السجع الذى يمتع اللسان بنطقه والآذان بسماعه، وتكتظ بصور تتعاقب فيها ومشاهد بديعة كمشهد إصلاح ابن الصباغ للأرض وإعدادها للزرع بين جدار يهدمه وغار يردمه ونجاد يخفضها ووهاد يرفعها حتى غابت مغاراتها وانكشطت أسنمتها وانحطت. فهو ليس حائك أسجاع وراسم تصاوير فحسب، بل هو أيضا