مصور يعرف كيف يعرض عليك مشهدا بأكمله كأنك تبصره وتراه. وهو إلى ذلك خفيف الظل يعرف كيف يسرك بالكلم، وكيف يورد عليك ما يضحك سنك على نحو ما صور ساكنى أرضه وبستانه، فمنذ أعوام لم يؤد واحد منهم خراجا، ولا صنع لبيته بابا ولا رتاجا، وإنهم-لفقرهم المدقع-ليأكلون الشجر والأبّ ومراعيه كالأنعام قبل الثمر والحب. ولا بد أن ابن الشامى وصمصام الدولة ضحكا طويلا حين وصلا فى الرسالة إلى هذا المشهد المضحك. وهذا الجانب الفكه فى ابن الصباغ اتضح بصورة أوسع فى رسائل ساقها له ابن بسام حين استوطن الأندلس وصحب هناك الأديب أبا حفص القعينى، وكانت فيه بدوره دعابة، وحدث أن ماتت له هرة، فجلس للعزاء عنها تماجنا، فما كان من ابن الصباغ إلا أن كتب له رسالة عزاء فيها، ومن قوله فى بعض فصولها:
«الحياة لبنى الدنيا مراحل، والمنايا لجميعهم مناهل، والأعمار، كالأسفار، منها القريب الوصول، العاجل الحلول، ومنها البعيد الشّقّة، الشديد المشقّة، أنفاس معدودة، وآجال محدودة، وليس يناج من محتومها أحد، ولا لمخلوق منها ملتحد (ملجأ). وانتهى إلىّ-جعل الله الصبر الجميل سبيلك، وأطفأ ببرد السّلوان غليلك-نبأ جلل، وخطب معضل، وهو مصابك بشقيقة نفسك، وموضع راحتك وأنسك، وربيبة حجرك وحجرتك، وآلة حيطتك على حنطتك (قمحك) وكالئة (حافظة) ذخائرك وقنيتك (ما تقتنيه) واستحواذ فجيعتها على لبّك، وما عالجتها به من ذرور (ما يذر من العطور على الميت) وحنوط (ما يخلط من الطيب بأكفان الموتى وأجسادهم) وإشفاقك من إسلامها إلى التراب، وإبقائك إياها طويلا فى المحراب، وأليّتك (حلفك) عليها لتدعونّ إلى جنازتها مأتما، يشققن (أى النساء) عليها جيوب المدارع (فتحات الثياب) ويفضن من الوجد بها غروب (دلاء) المدامع، ويعولن عليها بالصراخ والنّياح، ويذرين (يرسلن) لمصرعها شعورهن مع الرياح».
وابن الصباغ عزّى أبا حفص القعينى فى هرّته، وكأنها كانت شقيقة نفسه وموضع راحته وأنسه، كما يقول، أو كأنها كانت محبوبة عزيزة، وهو يبدأ رسالته بأن هذه حالة الدنيا فهى دائما إلى فناء، أنفاس معدودة وآجال محدودة، ويدعو الله له أن يلهمه الصبر الجميل على فجيعته ويطفئ ببرد السلوان غليله، ويعزّيه فى ربيبة حجره وحجرته، وإضافة حجرته إلى حجره بديعة.
وتتراءى لنا فى الرسالة روح الفكاهة والسخرية مجسدة، وخاصة حين يحدثنا أن القعينى أقسم ليعقدنّ لها مأتما كبيرا تشقّ فيه جيوب النساء على محبوبته ويفضن الدمع ويرسلنه وجدا على هرته. ويعولن عليها بالصراخ والنواح. ولا نصل إلى هذه القطعة من الرسالة حتى نغرق فى الضحك، ويستمر قائلا للقعينى:
«ولست بناس ذكر تلك الملح التى كتبت لى تصف من أخلاقها وآدابها، والمدح التى أوردت