للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ضروب تصنع مختلفة كأن تخلو الرسالة من حرف معين كهذه الرسالة أو يطّرد حرف معين فى جميع ألفاظها على نحو ما صورنا ذلك مرارا فى عرضنا للكتابة الأدبية بالمشرق وفى الأندلس.

وأحكم عيسى بن عبد المنعم فى هذه الرسالة انتخاب الألفاظ والأسجاع، ولم يكتف بالسجع من حيث هو، بل طلب فيه القصر حتى تكون الرسالة وافرة النغم، وعنى فى السجع بتصاوير كثيرة. ورسالة عيسى بن عبد المنعم الثالثة فى العتاب وفيها يقول:

«لولا أن ذنوب الحبيب، تصغر عن التأنيب. . لكان لنا وللرئيس مجال واسع ومتسع بالغ فيما أتاه، إن لم نقل جناه، وفيما وعد فأخلف، إن لم نقل الذنب الذى اقترف، ومهما أجللنا قدره عن أن ينسب إليه خلف الوعد وإن كان جليلا، ما عذره إذ لم يكتب بوجه العذر أنه ما وجد سبيلا، وقد كنا نتوقع تدانى العناق، فصرنا نقنع بأمانى التلاق».

والعناية بانتخاب الألفاظ والأسجاع واضحة فى الرسالة، مع رهافة الشعور فى مثل قوله:

«ذنوب الحبيب، تصغر عن التأنيب» وقوله: «كنا نتوقع تدانى العناق، فصرنا نقنع بأمانى التلاق».

وقد ترجمنا لابنه محمد بين الشعراء وعرضنا هناك إشادة ابن بشرون به فى الفصاحة والقفطى به فى علوم الأوائل، وألممنا ببعض مراثيه البديعة، وساق له العماد عن ابن بشرون فصولا من ثلاث رسائل، مثل أبيه، وأولاها فى التشوق إلى صديق عزيز، ومن قوله فى صدرها:

«أخى ومولاى علّ الدهر يجمعنا ... بمنزل عن جميع الشرّ مبتعد

شوقى إلى لقائك شوق الظمآن إلى الماء الزّلال (العذب الصافى) وارتياحى إلى ما يرد من تلقائك ارتياح السقيم إلى الصّحّة والإبلال، وتلهفى على فراقك تلهف الحيران، وتأسفى على بعدك تأسف الولهان، لكننى إذا رجعت إلى شاهد العقل، وعدلت إلى طريق العدل، يمازج قلبى سرورا، ويخالط شوقى بهجة وحبورا. . فأفزع إلى الدعاء لمقدر الأمور. الذى (يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور) أن يحسن لنا العقبى، ويقضى لنا بالحسنى، ويسبل علينا من العافية سترا سابغا ضافيا، ويوردنا من السلامة موردا سائغا صافيا، وأن يقرّب بك الاجتماع، حيث يوجد الاستمتاع، بما تقرّبه الأعين ويلذ الأسماع».

ومحمد لا يقل عن أبيه عيسى بن عبد المنعم فى براعة اختياره للألفاظ وروعة انتخابه للتصاوير، مع حسن الأسجاع وكأنه يريد أن يرضى الأذن بما تجد فى الألفاظ من جمال الجرس، وفى المعانى والتصاوير من الحسن الفائق، وربما تفوق فى ذلك كله على أبيه. وله من رسالة فى عتاب بعض خلصائه:

«قد عاملنى فى مشاهد هذه الأيام، التى قمعت (قهرت) الخاص والعام، بأشياء لو جرت بينى وبينه على خلوة لعددتها من لذيذ الأنس، لكنها أتت فى الملأ (أشراف الجماعة) بما آلم النفس، واحتملت ذلك منه، رجاء أن يقلع عنه، فازداد لجاجة، وازددت حراجة (ضيقا) حتى استفحل

<<  <  ج: ص:  >  >>