للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كالرياض جادها هامى رهامها (غيثها)» ويقول العماد إنه أورد من كلامه ما يأسو سماعه الكلوم (الجروح)، ويجلو سنا إحسانه العلوم، ويحكى درر الأصداف ودرارى (كواكب) النجوم. .

ويذكر له العماد فصولا من ثلاث رسائل، أولاها فى براعة صديق له فى خطه الرائع وبلاغته البديعة، ومن قوله فيها:

«نظرت من الكتاب إلى خط موصوف، معتدل الحروف، أملس المتون، مفتّح العيون، لطيف الإشارات، دقيق الحركات، لين المعاطف والأرداف، متناسب الأوائل والأطراف، يروق العيون حسنه وشكله، ويعجز المحاول صنعه، متضمنا معانى كأنها رقية الزمان، وصمتة (ألهية) الأمان. .

وقلت سبحان ربى القيوم: {أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} أكل هذا الإحسان، فى طاقة الإنسان. . ثم رجعت إلى نفسى، وثاب إلىّ حسّى، فقلت عند سكون جأشى (نفسى) وثبوت طيشى، وإفراخ روعى وذهاب دهشى، إن من دبّ فى الفصاحة ودرج فى وكرها، ورضع بلبانها، وجرع من درّها (لبنها الكثير) وصحب السادات مقتبلا (شابا) والأمجاد مكتهلا لخليق أن يحلّ من الفضل وسائطه ويجمع قطريه، بل يستولى على غواربه (أعاليه) ويملك شطريه».

وانتخاب الألفاظ واضح فى الرسالة مع المقدرة البينة على وصف الخط البديع وما يحسن عيسى بن عبد المنعم من وصف بلاغة صاحبه، مع ما يزين وصفه من سجع أحيانا وهو سجع طبيعى لا تكلف فيه، إذ يأتى به فى تضاعيف الكلام دون محاولة التعمل له، وليس ذلك كل ما يزين به وصفه فهو يزينه بعبارات تصويرية كوصفه المعانى فى رسالة صاحبه بأنها «رقية الزمان وصمتة الأمان» وكوصف صاحبه بصور متلاحقة إذ يقول إنه «دبّ فى الفصاحة ودرج فى وكرها، ورضع بلبانها، وجرع من درّها. ويقتبس العماد فصلا من رسالة ثانية لعيسى بن عبد المنعم أسقط فيها حرف الألف واللام مشيدا فى مطالعها:

«رقعتى نحوك سيدى وسندى، وذخرى وعضدى، ومن بذّ (١) وبزّ. . فذّ دهره، ووحيد عصره، وغريب زمنه، ونسيج وحده، مدّ ربّى مدّتك فى مربوب (دائم) نعمته، ومدد نصرته، وكبت من نكب (٢) عن ودك بعظيم ذخره (المدّخر لك) ومخوف زجره. . وسوّغك من ضرب (٣) نعمه بهنيّه، ومريّه (٤)، ومتعك من موفور قسمه (٥) بحميده، ومزيده».

ولا يحسّ القارئ للرسالة بما تكلفه عيسى بن عبد المنعم من إسقاط الكلمات ذات الألف واللام لمقدرته البيانية، وكأن كتاب صقلية لم يتأثروا فى كتابة رسائلهم بأسلوب السجع الذى عمّ فى المشرق منذ أواسط القرن الرابع الهجرى، بل تأثروا أيضا بما شاع فى كتابة الرسائل من


(١) بذ: سبق. بز: غلب.
(٢) نكب: انحرف.
(٣) الضرب: عسل النحل.
(٤) مريه: سائغه.
(٥) قسمه: ما يقسمه للناس.

<<  <  ج: ص:  >  >>