وكان محبّا للرحلة، فلم يكد يبلغ الثانية والعشرين من عمره، حتى فارق موطنه إلى حضرة الصاحب بن عباد، وكان-كما مرّ بنا فى ترجمته-راعيا كبيرا من رعاة الأدب فى عصره، بل كان أكبر رعاته، فانتجعه الشاب بديع الزمان سنة ٣٨٠ ومدحه ببعض أشعاره، وأعجب به الصاحب لبراعته الأدبية، وأحضره مجالسه، ويقال إنه كان يلقى عليه بعض الأبيات الفارسية ويطلب إليه نقلها إلى العربية، فينقلها فى سرعة عجيبة.
ويرحل عن حضرة الصاحب مولّيا وجهه شطر جرجان، وينزل بأسرة معروفة بالثراء وتشجيع العلماء والأدباء، وهى أسرة الإسماعيلية، ويرعاه منها خاصة أبو سعيد ابن منصور الإسماعيلى، وظن بعض المعاصرين أنها كانت تعتنق المذهب الإسماعيلى الشيعى، وهو اتفاق فى الاسم جرّ إلى هذا الخطأ (١). ويؤكد ذلك أن ياقوت فى ترجمته له يقول:«إنه كان شديد التعصب لأهل الحديث والسنة» فلم يكن إسماعيليّا، ولا كان أيضا إماميّا شيعيّا، بل كان سنّياّ أشعرياّ.
ولا يمكث فى جرجان طويلا، بل يتركها إلى نيسابور موطن أهل السنة عام ٣٨٢ وهناك يصطدم بأبى بكر الخوارزمى، وهو اصطدام طبيعى، فقد كان الخوارزمى شيعيّا إماميّا، وكان يدعو لبنى بويه الشيعة الإماميين فى نيسابور معقل الدولة السامانية السنية، فانتهز الأدباء فيها فرصة نزول بديع الزمان ببلدتهم، وعقدوا مناظرة بينه وبين الخوارزمى انتصروا فيها للبديع. فعلا صيته، وتألق نجمه، إذ كان الخوارزمى يعدّ فى الذروة من الكتاب والشعراء لعصره. وتصادف أن توفى سريعا، فخلا الجو للبديع، وطارت شهرته، ورعاه حينئذ بنو ميكال أعيان نيسابور وأدباؤها النابهون. وسرعان ما فارقها سنة ٣٨٣ راحلا من بلد إلى بلد فى خراسان بينما الجوائز والمكافآت تغدق عليه، حتى إذا بدأت المعارك بين الغزنويين والسامانيين ولّى وجهه نحو سجستان وأميرها خلف بن أحمد (٣٤٤ - ٣٩٩ هـ.) وكان أديبا فأعجب ببديع الزمان، ويقول الباخرزى إنه وصله بألف دينار. وذكر ذلك فى إحدى رسائله، وله فيه خمس مقامات أنشأها فى مديحه وقصائد ورسائل مختلفة.
ويترك سجستان إلى هراة بأفغانستان، ممنّيا نفسه أن يصبح من حاشية محمود الغزنوى ويلقاه، وقد أنشدنا له قصيدة فى مديحه على نحو ما مر بنا فى غير هذا الموضع،
(١) راجع كتاب بديع الزمان الهمذانى لمارون عبود (طبع دار المعارف) ص ١٦ وهو يشك فى اسمه واسم إبيه وعروبته دون دليل.