للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويصهر إلى سرىّ من سراة هراة يسمّى الخشنامى، وينجب أولادا، ويقتنى عقارا وضياعا. ويكتب إلى أبيه رسالة يستدعيه فيها هو وإخوته وعمه مما يدل على ما صار إليه من ثراء. ويبدو أنه غدت له مكانة كبيرة، فكان الكبراء يقصدونه لطلب شفاعته عند أولى الأمر، يقول فى بعض رسائله: «وهؤلاء الصدور، يرون أن الشمس من قبلى تدور» غير أنه لم يلبث أن توفى وهو لا يزال فى الأربعين من عمره سنة ٣٩٨ للهجرة.

وللبديع رسائل كثيرة، وهى رسائل إخوانية تتناول المديح والاستعطاف والشكر والاعتذار والعزاء والاستمناح وطلب الشراب والهجاء والتقريع، ومنها ما هو موجّه إلى الأمراء أو الوزراء أو كبار الموظفين أو شيوخه أو إلى نظرائه من الأدباء أو إلى أهله أو إلى ذوى الوجاهة واليسار. وله من كتاب إلى الأمير أبى نصر الميكالى النيسابورى:

«كتابى-أطال الله بقاء الأمير-وبودّى أن أكونه، فأسعد به دونه، ولكن الحريص محروم لو بلغ الرزق فاه. لولاّه قفاه، وبعد فإنى فى مفاتحته بين ثقة تعد، ويد ترتعد، ولم لا يكون ذلك والبحر وإن لم أره، فقد سمعت خبره؟ ومن رأى من السيف أثره؛ فقد رأى أكثره، وإذ لم ألقه، فلم أجهل إلا خلقه، وما وراء ذلك من تالد أصل ونشب، وطارف فضل وأدب، فمعلوم تشيد به الدّفاتر، والخبر المتواتر، وتنطق به الأشعار، كما تختلف عليه الآثار، والعين أقل الحواسّ إدراكا، والآذان أكثرها استمساكا».

وفى هذه الرسالة القصيرة ما يوضح بعض خصائص سجعه، وأنه يعنى فيه بتقصير العبارات، تواتيه فى ذلك ملكة فياضة، فلا يكاد يمسك بالقلم ويكتب، حتى تنثال عليه العبارات، وحتى يخيل إلى الإنسان كأن سيلا متصلا من الكلام يجرى ولا ينقطع إلا أن يتوقّف البديع عامدا لينهى الكلام. وتأمّل فى سجع هذه الرسالة فستجده موشى بالجناس الناقص فى مثل: «تعد وترتعد» و «أره وخبره» و «أثره وأكثره» و «ألقه وخلقه». وهو دائما يغمس رسائله فى الجناس غمسا، تارة يأتى به كاملا، وتارة يأتى به ناقصا، وهو الأغلب الأكثر، كقوله فى الأمير خلف بن أحمد فى إحدى رسائله: «لو أن البحر عدده، والسحاب يده، والجبال ذهبه، لقصرت عما يهبه. بينما المرء فى سنة من نومه، وقصاراه قوت يومه، إذ يقرع الباب عليه قرعا حفيّا، ويسأل به سؤالا خفيّا، ويعطى ألفا خلفيّا». والجناس الناقص واضح فى هذه العبارات المتعاقبة، وهو يشفعه بكثير من التشبيهات والاستعارات، ضامّا دائما النظير فى الألفاظ إلى نظيره، وهو ما يسميه البلاغيون بمراعاة النظير كقوله من فصل فى إحدى رسائله:

«أرانى أذكر الشيخ كلما طلعت الشمس أوهبت الريح أو نجم النجم أو لمع البرق

<<  <  ج: ص:  >  >>