لكتاب الإيضاح للفارسى. . ثم قال لى: أقرأت عليه، قلت نعم قرأت: الجمل (للزجاجى) والإيضاح والكتاب (لسيبويه) فلما ذكرت الكتاب قال: فاعبر (أى الحلقة يريد انتقاله إلى جواره) وتلكأت فى هذا العبور واستحييت منه، ولكنه أصرّ على أن أعبر إليه، وعبرت، فأقعدنى إلى جانبه، فجلست مغضيا (منكمشا) حياء منه، فقال: اجلس متسعا، فجلست وتمادى فى الإقراء، فاختلست الكلام-أثناء إقباله على من بين يديه من التلاميذ للإلقاء عليهم-مع الذى كان عن يمينى اختلاسا، وسألته من الشيخ؟ فقال: بهاء الدين بن النحاس، والتفت الشيخ إذ رآنى وثبت بين يديه، فقال: لم؟ ارجع إلى موضعك، فقلت: يا مولانا لم يعرف المملوك من أنت؟ ولو علم ما جلس هذا المجلس (أى بجوارك) وما تكلم، فعزم علىّ فى العود إلى مجلسى، فعدت، وأشار بالاطمئنان فاطمأننت».
ولوصف ابن رشيد لهذا المجلس دلالات، فقد كان شابا فى نحو الخامسة والعشرين من عمره، وابن النحاس شيخ كبير، بل علم النحاة فى عصره، وحين عرف فيه بعض الفضل العلمى فى العلم الذى يلقيه: علم العربية، طلب إليه أن يعبر الحلقة ويجلس بجواره رغم صغر سنه. وكان علماء القاهرة والإسكندرية دائما يكرمون من يفد على مجالسهم من المغرب الأقصى شبانا أو شيوخا، وكانوا يتلمذون لهم، ويطلبون منهم إجازات فى قراءة بعض مؤلفاتهم. ومن يرجع إلى ما كان يقرأ هناك من هذه المؤلفات سيجد كثرة غامرة من كتابات العلماء المصريين ومؤلفاتهم تقرأ هناك وقد تشرح مرارا، وممن يتردد اسمه هناك فى الفقه المالكى والأصول ابن الحاجب وابن دقيق العبد والشيخ خليل والقرافى وغيرهم من جلة العلماء المصريين فى كل علم وفن. وبالمثل كانت مصر تتداول بعض المتون والمؤلفات المغربية. وهذا بهاء الدين بن النحاس يقرأ لمعاصره ابن أبى الربيع عبيد الله بن أحمد العالم النحوى الكبير الذى هاجر من إشبيلية حين استولى عليها الإسبان سنة ٦٤٦ للهجرة إلى سبتة وأقرأ بها العربية طوال حياته إلى أن توفى سنة ٦٨٨ للهجرة. ونرى ابن النحاس وقد قرأ له شرحه على كتاب الإيضاح لأبى على الفارسى يتلطف فى السؤال عنه فيقول:«أيعيش سيدنا» ثم يعود فيقول لابن رشيد: ذلك شيخنا، وقد جعله شيخه، لا لأنه تتلمذ عليه مثل ابن رشيد، ولكن لأنه قرأ له شرحه للإيضاح، وفى ذلك ما يدل على مقدار إجلال أسلافنا من العلماء لمن يقرءون لهم بعض مؤلفاتهم فينعتونهم بأنهم شيوخهم، وإن لم يلقوهم، ولا حضروا لهم درسا فى مجالسهم العلمية. ويذكر الأستاذ ابن تاويت لابن رشيد نادرة حدثت له فى مدينة رابغ بالحجاز، يقول:
«غريبة عنّت لنا فى رابغ، بل أغنت فى معنى قوله تعالى وأقنت:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ} وذلك أنه