للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جمان والماء من فوقه دموع». ومليانة من المدن التى بناها الرومان قديما، وهى على قمة جبل، وبينها وبين شرشال على البحر المتوسط أربعون ميلا، والجبل المشيدة عليه ملئ بالينابيع ومغطى بأشجار الجوز». ويقول الحسن الوزان إن بيوتها متقنة وبداخلها فستقيات جميلة، وسكانها فى زمنه من الصناع والحاكة والخراطين، وتشتهر بصنع أوان لطيفة من الخشب، وكثيرون من أهلها يزرعون الأرض. وإذا كانت القاهرة لم تعجب العبدرى فإن الإسكندرية أعجبته وفيها يقول:

«مدينة الحصانة والوثاقة، وبلد الإشراق اللامع والطلاقة، وطلاوة النظر وحلاوة المذاقة، كلّ عنها ظفر الزمان ونابه، وفلّ منها جيش الحدثان وأحزابه، فلم تبد عليها للزمان ضراعة، ولا وكست لها فى معاملاته سلعة ولا بضاعة، ولا وقفت له موقف ذل يوما ولا ساعة، بل ثبتت لحزبه ثبوت البطل، وصابرت كيده حتى اضمحلّ سحره وبطل، فلم تصغ أذنا إلى ما يوعد به من الخنا والخطل، فهى واقفة وقوف الأطواد سامية بطرف غير كليل وجيد غير منآد (١)، آخذة من الكفر وأهله بالمخنّق (٢)، حتى أبدلتهم من الصافى المروّق الكدر المرنّق (٣)، فسامروا الأسف مسامرة الندى للمحلّق (٤)، ودجا عليهم ليل هم ادلهمّ بعد نهار سرور تألق، واضطرم عليهم الأسى واحتدم، فحالفوا الندم. . مدينة فسيحة الميدان، صحيحة الأركان، مليحة البنيان، تسفر عن محيّا جميل المنظر، وترنو بطرف ساج (٥) أحور، تبسم عن ثغر كالأقحوان إذا نوّر، كأنه لم يغب عنها شخص الإسكندر (٦)، بما ساس فيها من عجائب مبانيها ودبّر، ناهيك بمدينة كلها عجب، قد ستر حسنها حسن غيرها وحجب، ووفّى فيها الإتقان حقه كما وجب، وقد أغنى عن تسطير وصفها ما سطّره الأعلام، وصرّت (٧) به على المهرق الأقلام».

وكان العبدرى يتخفف أحيانا من السجع ويرسل الكلام إرسالا، ويمثل الأستاذ ابن تاويت لذلك بقوله فى عمود السوارى بالإسكندرية:

«هو حجر واحد مستدير عال جدا، على قدر الصومعة (المأذنة) المرتفعة، وهو يبدو من بعيد بارزا فى غابة النخيل مرتفعا عنها، وقد أقيم على حجارة منحوتة مرتفعة، على قدر الدكاكين العظام، علوها أزيد من قامتين، ولا يعلم كيف أقيم عليها، ولا كيف ثبت هنالك مع الرياح والعواصف، وهو مما لا يمكن تحريكه البتة، فضلا عن إقامته هنالك».


(١) غير منآد: مستقيم.
(٢) المخنق: موضع الحبل فى العنق للخنق.
(٣) المرنق: المزداد الكدر.
(٤) كريم جاهلى مدحه الأعشى بأن الكرم يبيت معه.
(٥) ساج: ساكن.
(٦) الإسكندر هو الإسكندر المقدونى مؤسس الإسكندرية.
(٧) صرّت: صوتت. المهرق: الصحيفة يكتب فيها.

<<  <  ج: ص:  >  >>