للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا نبالغ إذا قلنا إن القصاص والوعاظ جميعا كانوا من هذا الطراز، وكانوا لذلك قريبين من قلوب العامة، وقد استطاعوا أن ينشروا موجة حادة من الزهد، لا فى الطبقة العامة وحدها، بل أيضا فى الطبقات الأرستقراطية، على الأقل من حين إلى حين، كأن نرى واعظا يقف بين يدى هذا الخليفة أو ذاك محذرا من الظلم وعواقبه وداعيا إلى الإقبال على ما عند الله ونبذ متاع الحياة الزائل، أو مخوفا منذرا بالموت وما بعده من العذاب الأليم والنعيم المقيم. وطبيعى-والزهد قوت العامة فى حين كان المجون قوت الخاصة-أن يتعلق بالنظم فيه أكثر الشعراء، حتى شعراء المجون أنفسهم نرى لهم شعرا زاهدا كثيرا على نحو ما هو معروف عن أبى نواس فى العصر الماضى فقد كان الشعر الذى تتطلبه العامة والذى تجد فيه غذاء مشاعرها وعواطفها، مما جعل الشعراء ينظمون فيه قصائد ومقطوعات كثيرة. وكان الخلفاء إذا سمعوا منه شيئا غلبهم التأثر حتى لو كانوا فى مجلس شراب على نحو ما يروى عن المتوكل فإن الحمّانى نقيب العلويين فى الكوفة الذى ترجمنا له فى الفصل الماضى دخل عليه وهو فى مجلس شراب، فأنشده (١):

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرّجال فما أغنتهم القلل

واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم ... فأودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد ما قبروا ... أين الأسرّة والتّيجان والحلل

وأفصح القبر عنهم حين ساء لهم ... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل

قد طالما عمروا دورا لتحصنهم ... ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا

ومضى فى موعظته وبكى المتوكل بكاء طويلا حتى بلّت دموعه لحيته وبكى من حضره، وأمر برفع الشراب، وكأنما ثاب إلى رشده. وممن كان يكثر فى العصر من الوعظ فى شعره العتاهية وأشعار أبيه الزاهدة مشهورة، ويقول ابن المعتز عن الأب إنه كان ناسك الظاهر وكان خبيث الدين يذهب مذهب الثّنويّة، أما الابن فكان صحيح الدين ورعا وولى القضاء برهة، ويروى له موعظة حائية يستهلها بقوله (٢):


(١) مروج الذهب ٤/ ١١.
(٢) طبقات الشعراء لابن المعتز ص ٣٦٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>