للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أراعك شيب فى السواد يلوح ... يبثّ بأسباب البلا وينوح

والموعظة تدور على أن الشيب ناقوس الموت. وقد بدأ يدق بقوة، فعما قليل ستزهق الروح. ويذكر المرزبانى شاعرا معاصرا للمعتز من المعتزلة، ويقول إن له أشعارا يحضّ فيها على القول بالعدل والتوحيد المبدأين المعروفين فى الاعتزال، ثم يذكر له أشعارا (١) كلها مواعظ ودعوة إلى التقوى، وتخويف من الموت وما بعده.

وقد قلنا آنفا إن شعراء اللهو ومن وراءهم من شعراء الخمر كثيرا ما نظموا فى الزهد. ولا يكاد شاعر ممن ترجمنا لهم يخلو ديوانه أو تخلو أشعاره من بعض أبيات زاهدة، وفى ديوان ابن المعتز والصنوبرى وابن الرومى زهد كثير، ولعل أحدا لم يرسم صورة الزاهد فى هذا العصر كما رسمها ابن الرومى فى قصيدة بديعة من قصائده، نكتفى منها بالأبيات التالية (٢):

بات يدعو الواحد الصمدا ... فى ظلام الّليل منفردا

فى حشاه من مخافته ... حرقات تلذع الكدا؟ ؟ ؟

كلما مرّ الوعيد به ... سحّ دمع العين فاطّردا

قائل: يا منتهى أملى ... نجّنى مما أخاف غدا

وخطيئاتى التى سلفت ... لست أحصى بعضها عددا

ويح عينى ساء ما نظرت ... ويح قلبى ساء ما اعتقدا

وهذه الموجة الحادة من الزهد أخذت تلتقى بها منذ أواخر القرن الثانى الهجرى موجة صوفية، تعد وليدة الموجة السابقة، ومرّ بنا فى الفصل الثانى حديث مفصل عن نشأتها وتطورها ومقوماتها وكيف أنها قامت على فكرة المحبة الإلهية وما يتصل بهذه الفكرة من إنكار الذات ومن التوكل على الله توكلا خالصا. ونمضى فى العصر ويلقانا ذو النون المصرى الذى يعدّ الأب الحقيقى للتصوف، وهو أول من تكلم عن المعرفة الصوفية فارقا بينها وبين المعرفة العلمية والفلسفية التى تقوم على


(١) معجم الشعراء ص ٤٠٨
(٢) ديوان ابن الرومى (نشر كامل كيلانى) ص ٧٩ وانظر ٤٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>