للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفكر والمنطق، على حين تقوم المعرفة الصوفية على القلب والكشف والمشاهدة، فهى معرفة باطنة تقوم على الإدراك الحدسى، ولها أحوال ومقامات، ومن قوله يخاطب ربه (١):

أموت وما ماتت إليك صبابتى ... ولا قضيت من صدق حبّك أوطارى

تحمّل قلبى فيك ما لا أبثّه ... وإن طال سقمى فيك أوطال إضرارى

ويخلفه أبو يزيد البسطامى فيذيع فكرة الفناء فى الذات الإلهية، كما مر بنا فى غير هذا الموضع، ويقصد بها تجرد النفس عن رغباتها وقمعها لشهواتها وانمحاء إرادتها فى الإرادة الإلهية. ونمضى حتى نلتقى بالجنيد رأس الطبقة الثانية من المتصونة ونراه يعبّر عن فنائه فى الذات الربانية بمثل قوله (٢):

أفنيتنى عن جميعى ... فكيف أرعى المحلاّ

وهو الذى عمل على ترسيخ نظام الطرق والمريدين فى التصوف، وكان يكثر من العبارات والشطحات الموهمة فى مواعظه. وكان يعاصره أبو الحسن النورى، وكان شاعرا، ويكثر فى أشعاره من التعبير عن الحب الإلهى وفكرة الفناء فى الذات العلية بمثل قوله (٣):

تأمّل بعين الحق إن كنت ناظرا ... إلى صفة فيها بدائع فاطر

ولا تعط حظّ النفس منها لما بها ... وكن ناظرا بالحق قدرة قادر

ويلقانا أبو الحسين سحنون الخوّاص، وله شعر كثير فى المحبة الربانية وما يصحبها من وجد لا يماثله وجد وشوق لا يماثله شوق، وكذلك فى فكرة الفناء المطلق فى الله بحيث لا يصبح فى المتصوف أى فضل لإحساس أى شئ من حوله، فقد فنيت فيه جميع الصفات والرغبات ولم تبق إلا رغبة واحدة هى رغبة الانمحاء فى الذات الربانية التى تملك عليه كل شئ من أمره، يقول (٤):


(١) طبقات الصوفية للسلمى ص ٢٧.
(٢) السلمى ص ١٥٦
(٣) السلمى ص ١٥٥
(٤) السلمى ص ١٨٩

<<  <  ج: ص:  >  >>