سقى الله وقتا كنت أخلو بوجهكم ... وثغر الهوى فى روضة الأنس ضاحك
أقمنا زمانا والعيون قريرة ... وأصبحت يوما والجفون سوافك
وهو يتحدث عن الوصال الذى يذكره المتصوفة هذا الحديث الرمزى. فقد كان ينعم به زمانا أو قل كان يخيّل إليه أنه ينعم به، وكانت تمتلئ نفسه بهجة وفرحة، غير أنه أصبح يوما، فإذا الوصال كان حلما، وإنه ليطلبه باكيا بكاء لا ينقطع، بكاء كله جزع، وكله لوعة وحسرة. وله وراء ذلك تبتلات طريفة من مثل قوله:
يا من تقاصر شكرى عن أياديه ... وكلّ كلّ لسان عن معاليه
وجوده لم يزل فردا بلا شبه ... علا عن الوقت ماضيه وآتيه
لا دهر يخلقه لا قهر يلحقه ... لا كشف يظهره لا ستر يخفيه
لا عدّ يجمعه لا ضدّ يمنعه ... لا حدّ يقطعه لا قطر يحويه
لا كون يحصره لا عون ينصره ... وليس فى الوهم معلوم يضاهيه
جلاله أزلىّ لا زوال له ... وملكه دائم لا شئ يفنيه
والتبتّل يقوم على التنزيه الشديد للذات العلية، وأنه فرد لا شبيه له، سما عن كل زمن ماض وحاضر، فلا زمن يحصره ولا دهر ينال منه، وهو القاهر فوق عباده، موجود فى كل زمان ومكان، دون انكشاف ودون حجاب، ودون حصر، ودون حدّ يطيف به أو مكان يحتويه، ليس كمثله شئ، أزلى لا زوال لجلاله ولا فناء لملكه. وهو تجريد قوىّ للذات العلية ينفصل به القشيرى وأصحاب التصوف السنى عن أصحاب التصوف الفلسفى وما آمنوا به من الحلول والاتحاد بالذات الإلهية. ويقول:
جنّبانى المجون يا صاحبيّا ... واتلوا سورة الصّلاح عليّا
قد أجبنا لزاجر العقل طوعا ... وتركنا حديث سلمى وميّا
ومنحنا لموجب الشّرع نشرا ... وشرعنا لموجب اللهو طيّا
ووجدنا إلى القناعة بابا ... فوضعنا على المطامع كيّا
كنت فى حرّ وحشتى لاختيارى ... فتعوّضت بالرّضا منه فيّا (١)
والذين ارتووا بكأس مناهم ... فعلى الصّدّ سوف يلقون غيّا
وهو يعلن فى الابيات سلوكه فى الطريق، وكأن الانحراف عن هذا السلوك مجونا أو يشبه المجون، وقد لبى عقله ودواعيه وترك اللهو وبواعثه، فهو يعيش للشريعة المحمدية قانعا، زاجرا مطامعه فى متاع الحياة. ويتصور كأنه كان يقضى أيامه قبل تصوفه فى فيافى
(١) فيا: ظلا