للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حرية الإرادة الإنسانية، وأن الإنسان يتصرف كما يشاء له عقله، ولا يلبث أن يجعله فى نداه وكرمه على مذهب جهم بن صفوان الذى كان يقول-كما يقول المعتزلة-بوجوب التكاليف الشرعية بينما كان يؤمن بالجبر وتعطيل الإرادة الإنسانية.

وكل ذلك ليبالغ فى مدح أبى سعيد بالكرم وأنه قدر مقدور عليه، لا يستطيع عنه حولا. ويعود إلى مذهب جهم، ولكن لا فى الجبر وإنما فى أسماء الله وصفاته، فقد كان يمتنع عن تسميته باسم، حتى لا يثبت عليه شيئا من التشبيه بالمخلوقات.

وقد استمد أبو تمام من هذه الفكرة الدقيقة فى نعته الخمر، إذ يقول (١):

جهميّة الأوصاف إلا أنهم ... قد لقّبوها جوهر الأشياء

فالخمر فى رأيه رقّت حتى كادت لا تبين، بل حتى كادت لا تسمى -على مذهب جهم-باسم، ولكنها لعظم شأنها لقّبت جوهر الأشياء. ولعل ذلك ما يشهد بأن أبا تمام كان يتغلغل فى معرفة مذاهب المتكلمين، وهو تغلغل التحم بتغلغله فى قراءة الفلسفة، فإذا شعره يطبع بطوابع الفكر الدقيق، وهو فكر يجلّله الغموض فى كثير من جوانبه، ولكنه الغموض الزاهى الذى يلذ العقل والشعور، والذى ما تزال توليداته واستنباطاته الخفية فيه تروع قارئه روعة شديدة، وهى روعة جعلت القدماء يقولون إنه أكثر العباسيين اختراعا وابتكارا (٢). ولا تقف المسألة فى شعره عند اختراع بعض المعانى وابتكار بعض الصور، فقد نشر فى صحف أشعاره التضاد الذى يقف عنده المناطقة واستخرج منه ما لا يحصى من المعانى والصور الجديدة، كقوله يصور جمال إحدى صواحبه: (٣)

بيضاء تسرى فى الظلام فيكتسى ... نورا وتسرب فى الضّياء فيظلم

فقد جعلها تكسف نور الشمس ببهائها، وكأنها القمر يكسف ضوء الكواكب حتى ليصبح ضياء النهار مظلما لشدة نورها. وهو تضاد بديع، فالضياء يظلم.

ويمكّن لهذا المعنى ويزيده عمقا فيقول واصفا إحدى صواحبه فى ساعة الوداع (٤):


(١) الديوان (طبع دار المعارف) ١/ ٣٤ وطبعة بيروت ص ١٢.
(٢) انظر العمدة لابن رشيق (طبعة أمين هنديه) ١/ ١٧٧، ٢/ ١٨٩.
(٣) الديوان (طبع دار المعارف) ٣/ ٢١٣ وطبعة بيروت ص ٢٥٢.
(٤) الديوان (طبع دار المعارف) ٣/ ٢٤٩ وطبعة بيروت ص ٢٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>