للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وواضح ما فى هذه الأبيات من ألفاظ المتكلمين ومصطلحاتهم وتجريداتهم التى تبلغ حد الوهم، فقد جعل الخمر لا تدرك بالعقل كأنها معنى خفى لا ينكشف، ودعاها: «جوهر الكل» وقال إنه لا يحيط بها كيف أو تكييف تحدّ به وتعرف، وعاد يصور خفاءها ببقايا يقين تسترها سحب الشك حتى لا تكاد تبين.

وكان أبو تمام-على شاكلة أبى نواس-يتعمق الاعتزال وعلم الكلام، بل يظهر أنه مدّ تعمقه إلى الفلسفة وما يتصل بها من المنطق، وقد ألمح إلى ذلك الآمدى فى فاتحة كتابه: «الموازنة بين الطائيين» فقال إن شعره إنما يعجب أصحاب الفلسفة. وتتراءى ألفاظها عنده من حين إلى حين كقوله فى هجاء بعض خصومه (١):

هب من له شئ يريد حجابه ... ما بال لا شئ عليه حجاب

وكلمة لا شئ فى اصطلاح المتفلسفة تعنى العدم. ومن ذلك قوله (٢):

لن ينال العلا خصوصا من الفت‍ ... يان من لم يكن نداه عموما (٣)

والعموم والخصوص من كلام المناطقة. ومن ذلك قوله فى أحد ممدوحيه (٤):

صاغهم ذو الجلال من جوهر المج‍ ... د وصاغ الأنام من عرضه

والجوهر عند الفلاسفة والمتكلمين أثبت من العرض. وفى أشعاره بعض إشارات إلى المذاهب الكلامية، وعلى رأسها مذهبا الاعتزال والجهمية، يقول فى أبى سعيد الثّغرى أحد القواد المشهورين فى عصره (٥):

عمرىّ عظم الدين جهمىّ النّدى ... ينفى القوى ويثبّت التكليفا

وهو فى أول البيت يجعله عمرى العقيدة، يريد أنه على مذهب عمرو بن عبيد إمام المعتزلة بعد واصل بن عطاء، فهو يأخذ-كما يأخذ عمرو وأصحابه-بفكرة


(١) ديوان أبى تمام (طبع المطبعة الأدبية ببيروت) ص ٤٣٦.
(٢) نفس الديوان (طبعة دار المعارف) ٣/ ٢٢٥ وانظر الطبعة السابقة ص ٢٥٩.
(٣) الندى: الكرم.
(٤) الديوان (طبع دار المعارف) ٢/ ٣١٧ وطبعة بيروت ص ١٦٨.
(٥) الديوان (طبع دار المعارف) ٢/ ٣٨٧ وطبعة بيروت ص ١٨٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>