للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأول موضوع نقف عنده المديح، ومعروف أن الشاعر الجاهلى والإسلامى كان يرسم فى ممدوحه. المثالية الخلقية الرفيعة التى تقدرها الجماعة، وإذا كان مؤثرا فى حياة عصره السياسية كأن يكون خليفة أو واليا عرض لأعماله، وللأحداث التى شارك فيها. أما إذا كان بطلا يقود الجيوش ضد أعداء الأمة العربية فإنه يصور بطولته وما خاضه من معارك حربية. وقد اضطرمت هذه الغايات للمدحة فى العصر العباسى، إذ نرى الشعراء يعيدون ويبدئون فى تصوير المثل الخلقية صورا حية ناطقة، ويعدو الحصر ما استنبطوه من معان طريفة فى السماحة والكرم والحلم والحزم والمروءة والعفة وشرف النفس وعلو الهمة والشجاعة والبأس، وقد جسموها فى الممدوحين تجسيما قويّا، حتى لتصبح كأنها تماثيل قائمة نصب أعين الناس كى يحتذوها ويحوزوا لأنفسهم مجامع الحمد والثناء. وبذلك ظلت المدحة تبث فى الأمة التربية الخلقية القويمة حافزة لها على الفضائل والمكارم الرشيدة. والذى لا ريب فيه أنها تحمل خصالنا وخصائصنا النفسية، وقد أشعل الشعراء العباسيون جذوتها فى النفوس بما رفدوها به من عقولهم الخصبة وأخيلتهم البارعة. وقد مضى الشعراء فى مديح الخلفاء والولاة يضيفون إلى هذه المثالية مثالية الحكم وما ينبغى أن يقوم عليه من الأخذ بدستور الشريعة وتقوى الله والعدالة التى لا تصلح حياة الأمة بدونها، وبذلك كانوا صوتّا قويّا لها، صوتا ما بنى يهتف فى آذان الحكام بما ينبغى أن يكونوا عليه فى سلوكهم وسياستهم من مثل قول مروان بن أبى حفصة فى مطلع قصيدة للمهدى (١):

أحيا أمير المؤمنين محمد ... سنن النبىّ: حرامها وحلالها

وفيه يقول الحسين بن مطير (٢):

يعفّ ويستحيى إذا كان خاليا ... كما عفّ واستحيا بحيث رقيب

ويقول أبو العتاهية فى هرون الرشيد (٣):

وراع يراعى الله فى حفظ أمّة ... يدافع عنها الشرّ غير رقود


(١) أغانى (طبع دار الكتب) ١٠/ ٨٩.
(٢) أغانى ١٦/ ٢٣.
(٣) أغانى ٤/ ١٠٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>