للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تجافى عن الدنيا وأيقن أنها ... مفارقة ليست بدار خلود

وفيه يقول منصور النّمرى (١):

بورك هرون من إمام ... بطاعة الله ذى اعتصام

له إلى ذى الجلال قربى ... ليست لعدل ولا إمام

وقد يكون الخليفة سيئ السلوك مثل الأمين، ولكن الشعراء يمدحونه بنفس هذه المثالية الكريمة للخلفاء، لأنهم لا يمدحونه من حيث هو، وإنما يمدحونه خليفة للمسلمين وموضع آمالهم، وكأنما يريدون أن يرفعوا أمام عينه الشعارات التى تطلبها الأمة فى خليفتها وراعيها، لعله يثوب إلى طريق الرشاد. وقد نمت من هذا المديح فروع الشعر السياسى، الذى يقف فيه الشاعر مدافعا عن حق حزب من الأحزاب فى الحكم والخلافة، وهو نمو بدأ منذ وقعة صفين، وهيأ لظهور أحزاب الخوارج والشيعة، ومعروف أن حركة الأولين خمدت فى هذا العصر، أما حركة الشيعة فظلت مضطرمة، وسنعرض لشعرائها وأشعارهم السياسية فى الفصل السادس، وأيضا لمن كانوا يشايعون العباسيين.

ولم يصور الشعراء مثاليتنا الخلقية العامة فى مدائحهم وكذلك مثاليتنا السياسية فحسب، بل صوروا أيضا الأحداث التى وقعت فى عصور الخلفاء، وخاصة الفتن والثورات الداخلية وحروب أعداء الدولة من الروم والترك، وبذلك قامت قصيدة المديح فى هذا العصر مقام الصحافة الحديثة، فهى تسجل الأحداث التى عاصرها الشاعر والأعمال الكبرى التى ينهض بها الخلفاء، مما يعطيها قيمة بعيدة إذ تصبح وثائق تاريخية، ومن أجل ذلك كنا نرى الطبرى فى تاريخه يتوقف من حين إلى حين لينشد ما نظمه بعض الشعراء فى الحادث الذى يرويه، وليجلوه جلاء تامّا على لسان هؤلاء الشعراء الذين عاصروه. وبذلك أعدوا من بعض الوجوه ليتحول المديح إلى تاريخ، وكان من أوائل من نفذ إلى ذلك السيد الحميرى، فإنه حوّل أخبار على بن أبى طالب ومناقبه إلى مدائح بديعة، وفى ترجمته بكتاب الأغانى لأبى الفرج الأصبهانى من ذلك طرائف كثيرة.


(١) أغانى ١٢/ ١٣٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>