للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وربما كان أهم ما سجلته صحف المديح فى هذا العصر صور الأبطال الذين كانوا يقودون جيوش الأمة المظفرة ضد أعدائها من الترك والبيزنطيين، فقد أشادت إشادة رائعة بكل معركة خاضوا غمارها وكل حصن اقتحموه، حتى كادت لا تترك موقعة ولا بطلا دون تصوير يضرم فى النفس العربية الاستبسال والمضاء وجلاد الأعداء جلادا عنيفا، وكل كاتب فى هذه الصحف أو قل كل شاعر يتفنن فى رسم بطولة القائد الذى يمدحه رسما يشعل الحماسة فى نفوس جنوده ونفوس الشباب العربى من ورائهم فإذا هم يترامون على منازلة أعدائهم ترامى الفراش على النار يريدون أن يسحقوهم سحقا. وكان الرشيد والمأمون والمعتصم يقودون بأنفسهم الجيوش التى كانت تمحق البيزنطيين محقا، فتغنى الشعراء بانتصاراتهم غناء يسكب الفرحة فى كل نفس، لعل من أروعه غناء أشجع شاعر البرامكة بفتح الرشيد لهرقلة فى آسيا الصغرى واكتساحه لجيش نقفور إمبراطور بيزنطة، وأكثر منه روعة غناء أبى تمام بفتح المعتصم لأنقرة وحرقه لعمورية فى بائيته المشهورة، وهى إلى أن تكون ملحمة أقرب منها إلى أن تكون قصيدة. وتكتظ كتب الأدب ودواوين الشعراء بتصويرهم لبسالة جميع القواد، لا الذين أسهموا فى حروب البيزنطيين فحسب، بل أيضا فى حروب الترك وبابك الخرّمى وغيره من الثائرين فى شرقى الدولة. ولم يكتف الشعراء بهذا التصوير فقد عنوا بتسجيل كل ما يستطيعون من تفاصيل عن المعارك الحربية، وبذلك لم تعد قصائدهم مديحا فحسب بل أصبحت أيضا تاريخا، وهو تاريخ كتب شعرا، تاريخ أبطالنا وأمجادهم الحربية. وكان هؤلاء الأبطال ومن ورائهم الخلفاء يرصدون الجوائز الضخمة للشعراء كى يرسموا هذه البطولات، ورسموها حقّا رسما باهرا سنرى مقتطفات منه فى تضاعيف تراجمهم، ويكفى أن نسوق قطعة من تصوير على بن جبلة لبطولة أبى دلف العجلى قائد المأمون المشهور، إذ يقول من قصيدة طويلة يصف فيها بعض وقائعه (١).

المنايا فى مقانبه ... والعطايا فى ذرا حجره (٢)

وزحوف فى صواهله ... كصياح الحشر فى أمره (٣)


(١) طبقات الشعراء لابن المعتز ص ١٧٥ والأغانى (طبعة الساسى) ١٨/ ١٠٣.
(٢) المقانب: جماعات الخيل، ذرا الحجر فناؤها.
(٣) زحوف: صفه مبالغة من الزحف، يريد الجيش. والأمر: الكثرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>