للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مكة جميعا حتى فقهاؤهم من مثل عطاء (١) بن أبى رباح وابن (٢) جريج وقضاتهم من مثل الأوقص (٣) المخزومى. وتبعت ذلك موجة واسعة من المرح، ومن خير من يمثّلها شاعر يسمى الدارمى. كان خفيف الروح، وفى كتاب الأغانى ترجمة (٤) طريفة له تصور فكاهاته ودعاباته. واشتهر فى هذا المجتمع المرح فتيات وسيدات شريفات كان لهن أثر بالغ فى رقة الأذواق ورهافة الأحاسيس، مثل الثّريّا (٥) بنت على بن عبد الله بن الحارث الأموية، وكان لها قصر عظيم تعقد فيه ندوات يؤمّها المغنون والشعراء، غير من كانوا فيها فعلا، إذ كانت الثريا مولاة للغريض ويحيى قيل وسميّة.

ومعنى ذلك كله أن مجتمع مكة كان على غرار مجتمع المدينة حضارة وترفا ومرحا ورقة وغناء وعزفا كلّ ليلة على أوتار العيدان والطنابير والآلات الموسيقية من كل لون. وأعدّ هذا كله شعراء مكة لأن يجرى جمهور شعرهم فى الغزل والحب، وربما كان أهم شاعر مكىّ تعلق بالهجاء والمديح عبيد الله ابن قيس الرقيات، إذ اتخذه مصعب بن الزبير فى أثناء ولايته على العراق شاعره الذى ينافح عن دعوة الزبيريين ضد بنى أمية. وبعد أن صار الأمر إلى عبد الملك أصبح من مدّاحيه ومداحى أخيه عبد العزيز والى مصر. ولكن حتى ابن قيس أكثر شعره فى الغزل، وعلى غراره العرجى. على أن هناك من عاشوا للغزل وحده حتى فاقوا فيه شعراء المدينة على نحو ما هو معروف عن عمر بن أبى ربيعة، ومن طريف ما كانوا يقولون عنه وعن تأثير غزله:

«إذا أعجزك أن تطرب القرشىّ فغنّه غناء ابن سريج فى شعر عمر بن أبى ربيعة فإنك ترقصه (٦)».

وكلّ ما قلناه عن تأثر غزل أهل المدينة بالغناء من حيث الكم والكيف والوزن ينصبّ انصبابا على غزل أهل مكة، وقد شاع بين الباحثين أن غزل المدينتين جميعا فى هذا العصر غلب عليه الطابع المادى الصريح، بل لقد


(١) أغانى ١/ ٢٥٧.
(٢) أغانى ١/ ٤٠٨.
(٣) أغانى ٢/ ٣٦٧.
(٤) أغانى ٣/ ٤٥.
(٥) أغانى ١/ ١٢٢، ١/ ٢٠٩ وما بعدها وفى مواضع متفرقة.
(٦) أغانى ١/ ٢٨٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>