للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العامة التى لم تكن تعرف ترفا ولا نعيما، إنما كانت تعرف الكدح وشظف العبش، وكأنما أحست عنده أنه يتغنى آلامها وبؤسها. ونراه يتعمقه الشعور بما هى فيه من ضنك، فإذا هو يرفع لبعض الخلفاء شكوى مريرة من غلاء الأسعار، يقول فى تضاعيفها (١):

من مبلغ عنى الإما ... م نصائحا متتاليه

أنى أرى الأسعار أس‍ ... ‍عار الرعيّة غاليه

وأرى المكاسب نزرة ... وأرى الضرورة فاشيه

من يرتجى للناس غي‍ ... رك للعيون الباكيه

من مصبيات جوّع ... تمسى وتصبح طاويه

من يرتجى لدفاع كر ... ب ملمّة هى ماهينه

من للبطون الجائعا ... ت وللجسوم العاريه

ألقيت أخبارا إلي‍ ... ك من الرعية شافيه

ولم يكن أبو العتاهية يقترب من العامة بزهده وما صوّر فيه من بؤسها وأوصا بها فحسب، بل كان يقترب منها أيضا بأسلوبه الذى كان يشتقه اشتقاقا من لغة الحياة اليومية ببغداد، وهو أسلوب ابتعد فيه عن الغرابة والتعقيد كما ابتعد عن العجمة، ولكنه بعد ذلك أجراه فى مستوى أفراد الشعب، بحيث لا يعزّ على أحد منهم أن يفهمه. ويؤثر عنه أنه كان يقول: «الصواب لقائل الشعر أن تكون ألفاظه مما لا تخفى على جمهور الناس مثل شعرى، ولا سيما الأشعار التى فى الزهد، فإن الزهد ليس من مذاهب الملوك ولا من مذاهب رواة الشعر ولا طلاّب الغريب، وهو مذهب أشغف الناس به الزهاد وأصحاب الحديث والفقهاء. .

والعامة، وأعجب الأشياء إليهم ما فهموه (٢)» ومن الحق أنه ظلت فى أسلوب شعره منذ فاتحة حياته السهولة، حتى إذا أخذ فى الزهد ضاعفها وأكّدها تأكيدا شديدا


(١) الديوان ص ٣٠٣.
(٢) أغانى ٤/ ٧٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>