للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأنت علاّم غيوب النّثا ... يوما إذا نسأل أو نسأل (١)

نحن فداء لك من أمّة ... والأرض والآخر والأوّل

فهو يجعله مصدر الهدى والنور ومعقل العقل وعلام الغيوب، وكأنه يرى فيه ما يراه الشيعة الغالون فى أئمتهم. ولم يلبث جعفر أن توفى فبكاه بكاء حارّا.

وكان يضمّ إلى هذا التشيع شعوبية شديدة على العرب وعكوفا على اللذات وشكوكا فى الدين، حتى ليبدو أحيانا شاكّا فى البعث والنشور. ولم يبق من شعوبيته إلا آثار قليلة، كقوله فى شعر له يخاطب به بعض أجواد العرب:

إن كان عرفك مذخورا لذى نسب ... فاضمم يديك فإنى لست بالعربى (٢)

إنى امرؤ بازل فى ذروتى شرف ... لقيصر ولكسرى محتدى وأبى (٣)

أما لهوه وعكوفه على الخمر فواضحان فى أشعاره، ويقال إنه كان له ابن عم فيه تقوى، فكان لا يزال ينهاه، وهو لا يرعوى ولا يزدجر، ومن طريف نعته للخمر وساقيتها قوله:

تسقيك كأس مدامة من كفّها ... ورديّة ومدامة من ثغرها

وقد ضاع أكثر شعره، ولم يبق منه إلا أطراف قليلة، وإلا ما دار حول قصته مع زوجته «ورد» وكانت نصرانية من أهل بلدته، فشغف بها حبّا، وأكثر فيها من غزله، وبادلته حبّا بحب، وأسلمت واقترنت به، وعاشا مدة هانئين، وهو سادر فى مجونه وغوايته. وكان ذلك-فيما يقال-يؤذى ابن عمه، فرأى أن يعكر عليه صفو حياته، وسولت له نفسه أن يرصد له فى إحدى أوباته من سلمية من يرمى عنده زوجته بالسوء، ولا ندرى كيف صدّق ذلك، وقد مضى قالة السوء يزيدون فى وهمه، حتى سارع يضربها بسيفه، فقضت نحبها، ثم عرف براءتها فعاش يبكيها ويندبها، ندب قلب مزّقه الألم والندم، بمثل قوله:

روّيت من دمها الثّرى ولطالما ... روّى الهوى شفتىّ من شفتيها


(١) النثا: الخبر.
(٢) العرف: المعروف.
(٣) البازل: الكامل فى التجربة. المحتد: الأصل.

<<  <  ج: ص:  >  >>