للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أسألك خصب الرّحل (١)، وصلاح الأهل (٢)». وروى الجاحظ من بعض وعظه فى كتابه الحيوان قوله: «تغدو الطير خماصا وتروح شباعا، واثقة بأن لها فى كل غدوة رزقا لا يفوتها. والذى نفسى بيده أن لو غدوتم على أسواقكم على مثل إخلاصها لرحتم وبطونكم أبطن من بطون الحوامل (٣)».

وواضح مما روينا من كلام صالح المرّىّ وغيره من القصّاص والوعاظ أنهم ارتقوا بصناعة النثر فى المعانى التى كانوا يرددونها رقيا بعيدا، إذ شعّبوا وفرّعوا فى تلك المعانى طويلا، واستنبطوا فيها كثيرا من الدقائق التى تمسّ القلوب والعقول.

وأضافوا إلى ذلك عناية واسعة بأساليبهم، وهى عناية تقوم على الدقة فى اختيار اللفظ والإحساس المرهف بجمال السبك والصياغة. وأدّاهم ذلك فى بعض الأحيان إلى استخدام السجع، بل كان منهم من أكثر من استخدامه مثل الفضل ابن عيسى الرقاشى وفيه يقول الجاحظ كان سجّاعا فى قصصه (٤)، وكان من أخطب الناس وكان متكلما قاصّا مجيدا (٥)، ويروى من وعظه: «سل الأرض فقل من شقّ أنهارك وغرس أشجارك، فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا (٦)» ويقول الجاحظ: «كان يتلو الآية التى فيها ذكر الجنة والنار والموت والحشر (٧)» ثم يفيض فى الوعظ. وكان ابنه عبد الصمد قاصّا مثله، وكان أغزر منه وأبين وأعجب وأخطب (٨)، وقيل له: «لم تؤثر السجع على المنثور وتلزم نفسك القوافى (أى روىّ الأسجاع) وإقامة الوزن؟ قال: إن كلامى لو كنت لا آمل فيه إلا سماع المشاهد لقلّ خلافى عليك، ولكنى أريد الغائب والحاضر والراهن والغابر، فالحفظ إليه أسرع، والآذان لسماعه أنشط، وهو أحق بالتقييد وبقلة التفلّت (٩)».


(١) الرحل هنا: المسكن والبيت.
(٢) البيان والتبيين ٣/ ٢٨٨.
(٣) الحيوان ٧/ ٦٢.
(٤) البيان والتبيين ١/ ٢٩٠.
(٥) البيان والتبيين ١/ ٣٠٦.
(٦) البيان والتبيين ١/ ٣٠٨.
(٧) البيان والتبيين ١/ ٢٩١.
(٨) البيان والتبيين ١/ ٣٠٨.
(٩) البيان والتبيين ١/ ٢٨٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>