ودقته وتعمقه، ومن خير ما يصور ذلك حديثه عن تفاضل العقول والعقلاء ونزولهم فى درجات متفاوتة تفاوتا بعيدا، ومع ذلك يطلق عليهم جميعا اسم واحد، يقول موردا السؤال والإجابة، ومنتهيا إلى أن العقل الكامل من صفات الله وحده.
«أخبرنى عن العقل أهو شئ إذا نال الإنسان أدناه فقد بلغ أقصاه أم الناس فى نيله مستوون أم متفاضلون؟ قال: بل متفاضلون. قال: فكيف دعى ذو الحظ اليسير منه باسم ذى الحظ الكبير، فقيل لهما عاقلان وهما فى العقل متباينان؟ فهل يقع اللقب الواحد على ذوى الدرجات الشتى؟ قال: نعم، وليس ذلك بخطأ من القائل، لأن هذه الدرجات الشتى من جنس واحد، واللغة تضيق عن هذا وما أشبهه أن يدعى كل ذى درجة من درجات الجنس الواحد بلقب غير لقب الآخر، ولو كلّفت اللغة ذلك لطال الكلام. . . لتوزع المعنى المستوجب للاسم ولكنها شملتها كلها باللقب الواحد ودعت المختلفين فيه باسم واحد. قال: فكيف يعرف الناقص من الزائد وقد جمعهما اسم واحد؟ . قال:
بالتمييز وكشف المعرفة، ومثل ذلك فى اللغة ما يدعى به أهل صناعة من الاسم الواحد وهم فى تلك الصناعة متباينون فى التفاوت، إذ يقال: بناة ونجّارون وتجار وخياطون، ولكل منهم على صاحبه فضل أو عليه له فضل. فالناس كلهم مستوون فيما يلحقهم من النقص فى العقل، وهم فيما أتوا منه متفاضلون، أحدهم فيه أكثر حظّا منه. قال: كيف مدّت هذه الغاية ومنع ذوو العقل بلوغها؟ قال: لأن الغاية كمال، والكمال صفة لا تصح إلا للخالق، ولا يستوى الخالق والمخلوق فى صفته، تعالى الله عن ذلك».
وواضح ما أودعه سهل هذه القصة الحيوانية من تصوير لحكم الملوك المتجبرين والولاة المتمردين وحيل الوزراء الدهاة، مستخلصا فى ثنايا ذلك كثيرا من العظات وناثرا كثيرا من الحكم والأمثال. وهو يبتغى بذلك نفس الغاية التى ابتغاها واضع كليلة ودمنة من نصح الملوك والحكام عن طريق ما يجرى على ألسنة الحيوان من مقت الظلم والبغى وسوء السيرة ومحبة العدل والإنصاف. وهو يتعمق أكثر مما تعمق صانع كليلة ودمنة، إذ يعرض للعلم والجهل والعقل وإرشاده الإنسان إلى الخير وصرفه عن طريق الشر. والقصة مشوفة لا بما فيها من حوار فحسب، بل بطرافة الحوار