والإلحاد وانحلال الأخلاق فإن ذلك إنما كان يشيع فى طبقات خاصة، أما المجون فكان يشيع فى الطبقة المترفة، وأما الشعوبية فكانت تشيع بين نفر من أبناء الأعاجم، وبالمثل الزندقة كانت مقصورة على أفراد. ومن الخطر أن نجعل ذلك كله صفات عامة للمجتمع، فقد كان المجتمع مجتمعا إسلاميّا، وكانت الطبقة العامة فيه حسنة الإسلام تتمسك بفرائضه وسننه وشعائره، ولم تكن تعزف الترف ولا ما يجر إليه من مجون وانحلال وفساد فى الأخلاق، إنما كانت تعرف الشظف والبؤس والحرمان، وكانت ساخطة سخطا شديدا على المجان وعلى الشعوبيين والملحدين من أعداء الإسلام والعروبة.
وإذا كانت الحانات ودور النخاسة اكتظت فى بغداد وسامراء وغيرهما من مدن العراق بالخمر والقيان والضرب على الآلات الموسيقية، وشركتها فى ذلك البساتين والأديرة من بعض الوجوه فإن مساجد سامراء وبغداد وغيرهما كانت مكتظة بالعبّاد والنسّاك وكانوا أكثر كثرة من المجّان وأهل الفساد. وكان فى كل مسجد حلقة، بل حلقات لوعاظ مختلفين كانوا لا يزالون يذكّرون الناس بالله واليوم الآخر وأنهم معروضون يوم الحساب فإما إلى الجنة والنعيم وإما إلى النار والجحيم. واختلط الوعظ بقصص دينى كثير على نحو ما صوّرنا ذلك فى كتاب العصر العباسى الأول، وكثر حينئذ النساك والزهاد فى متاع الحياة الدنيا، وعاشوا معيشة كلها شظف وتقشف وتبتل وعبادة، واقرأ فى تراجم الفقهاء والمحدّثين لهذا العصر فستجدهم أو على الأقل ستجد كثرتهم وهم يعدّون فى العالم الإسلامى بالمئات إن لم يكن بالآلاف قد أخذوا أنفسهم بالانصراف عن متاع الحياة الدنيا، بل لكأنما تجرّدوا للجهاد فى سبيل ذلك أسوة بزاهد الأمة الأول محمد صلى الله عليه وسلم، منتظرين، ما عند الله من النعيم الخالد الذى لا يزول. ويكفى أن نرجع إلى ترجمة واحد منهم مثل إبراهيم (١) بن إسحق الحربى، وكان من كبار المحدثين، وكان لا يأخذ على محاضراته فى الحديث أجرا من أحد، إذ عزف عن كل متاع فى الحياة، وعاش معيشة زاهدة مبالغة فى الزهد إلى أقصى حد، حتى إنه ليرفض
(١) راجع فى ترجمته تاريخ بغداد ٦/ ٢٧ ومعجم الأدباء ١/ ١١٢ والأنساب للسمعانى ١٦٢ وصفة الصفوة ٢/ ٢٢٨ وشذرات الذهب ٢/ ١٩٠ والنجوم الزاهرة ٣/ ١١٦ ويقال كان يقاس بابن حنبل فى علمه وزهده.