والنادرة طريفة منتهى الطرافة، والمعلم فيها يأخذ سمتا جادّا، يزينه فى أول الأمر علمه الواسع بالقرآن وتفسيره وبالفقه والنحو وبأشعار العرب وما شدا من علوم الأوائل أو علم المعقول كما يقول الجاحظ، حتى ظن أنه كامل الأدوات وعزم على تقطيع كتاب كان ألّفه فى نوادر المعلمين وغفلتهم وحمقهم. ويصحبه فترة، ويلاحظ أنه أغلق كتّابه فيزوره فى داره، وإذا هو جالس جلسة حزين مكتئب، فظن أنه فقد عزيزا لديه، وأخذ يسأله عنه، وهو يجيب جادّا، حتى عرف أنه فقد معشوقته.
وكأنما أطلّ حمقه على الجاحظ، وإذا هو يقول له إنه لم يرها، وتتوالى غفلته فى هذا الحب الأحمق الذى تهوى فيه كل قواعد المنطق، وكأننا فى مسرح هزلى نفضى فيه إلى الضحك، وكلما مضينا فى النادرة أغربنا فيه، لا نتوقف، وكأنما اختلّ توازننا، أو كأنما نندفع فى انحدار بقوة ولا نملك الوقوف أو السيطرة على أنفسنا من هذا السيل الجارف للغفلة المجسمة وما يطوى فيها من حمق فظيع، حمق يدفعنا إلى الضحك العريض. ولعل من الطريف أن الجاحظ كان يتندّر على كل شئ حتى على نفسه وشكله القبيح، ويروى عنه أنه قال:«ما أخجلنى إلا امرأة مرت بى إلى صائغ فقالت له: اعمل مثل هذا، فبقيت مبهوتا، ثم سألت الصائغ فقال: هذه امرأة أرادت أن أعمل لها صورة شيطان، فقلت: لا أدرى كيف أصوّره، فأتت بك لأصوره على صورتك».
ولعل فى كل ما قدمنا ما يصور شخصية الجاحظ الأدبية وخصائصه الفنية فى كتاباته. ومن المؤكد أن العربية لم تعرف كاتبا فرض نفسه على عصره والعصور التالية كما عرفت فى الجاحظ الذى ملأ الدنيا وشغل الناس بملكاته النادرة، وما وصلها به من ذخائر الثقافات الأجنبية، وما جسّدها فيه من طوابع عقلية ومن جدّ وهزل ومن نقل لكل صور الحياة فى مجتمعه ومن استطرادات تحمل كثيرا من الطّرف والنوادر ومن أسلوب ملئ بالنغم، يجرى فيه دائما الازدواج الذى يروع القارئ بجرسه، إذ يمتع الألسنة حين تنطق به والآذان حين تصغى إليه، كما يمتع بمضامينه العقول والأفئدة.