منها، واقتبس فيها بيتا لإبراهيم بن العباس الصولى شديد الصلة بما تريد الرسالة أن تؤدّيه من معان. ويعقبه بعبارات مقطّعة متقابلة، وكأنما الكلمات تتشابك بالأيدى، فقد كان يعرف كيف يضمّ اللفق إلى اللفق والنظير إلى النظير، بحيث تتماسك الكلمات وكأنها فى بناء متراص. وأشرنا فى الفصل السابق إلى إنكار إبراهيم بن المدبر فى رسالته العذراء التى وجّه بها إلى الكتّاب أن يقولوا فى رسائلهم:
«جعلت فداك» وإنما أنكر العبارة لاشتراك معناها كما يقول واحتمالها أن تكون فداء من الخير أو فداء من الشر، ويقول إن كتّاب العسكر (الجيش) وعوامّهم أولعوا بهذه اللفظة، حتى استعملوها فى جميع محاوراتهم وجعلوها دأبهم فى مخاطبة الشريف الوضيع والكبير والصغير. وكأنما صدر أبو العباس بن ثوابة عن روح هذا النقد، إذ كتب إلى الوزير عبيد الله بن سليمان رسالة خالية من قولهم:
«جعلت فداك» فعاتبه عبيد الله، ولم يكد يسمع عتابه، حتى كتب إليه برسالة ثانية، يصوّر فيها نقد إبراهيم بن المدبر السالف، وفيها يقول (١):
«الله يعلم-وكفى به عليما-لقد أردت مكاتبتك بالتفدية، فرأيت عيبا أن أفديك بنفس لا بد لها من الفناء، ولا سبيل لها إلى البقاء، ومن أظهر لك شيئا يضمر خلافه فقد غشّ، والأمر إذا كانت الضرورة توجبه، وتحقق أنه ملك لا يتحقّق، وعطاء لا يتحصّل، لم يجز أن يخاطب به مثلك، وإن كان عند قوم نهاية من نهايات التعظيم، ودليلا من دلالات الاجتهاد، وطريقا من طرق التقرب».
وقد التمس أبو العباس بن ثوابة لإنكار التفدية علة أخرى غير علة ابن المدبر، لعلها أكثر منها تعبيرا عما أصاب الذوق الأدبى فى العصر من رقة بالغة عند بعض الكتاب، حتى لتؤذيه الكتابة بالتفدية بنفس فانية غير باقية، وهو إفراط فى الحسّ والشعور والرقّة والدمائة. وبذلك نفهم عبارة أبى العباس السابقة حين استمع إلى كلام حاجم، فقال: علىّ بماء الورد أغسل فمى من كلام الحاجم، وكأن سماع الكلام الذى لا يعجبه لا يؤذى أذنه فحسب، بل يؤذى فمه، وإنه لإيذاء غريب، ولكن لا غرابة أن يصدر من أبى العباس، فقد كان يتكلف