للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثقافته الدينية يبدو محافظا فى بعض آرائه النقدية ويشتهر بسياطه التى ألهب بها ظهور الشعوبيين، وأهم أسلحته الحربية التى اتخذها ضدهم فى رأينا أنه حاول فى كتابه «عيون الأخبار» المزج بين الثقافات الإسلامية والعربية والفارسية واليونانية والهندية مزجا أسقط به الصراع العنيف بين الشعوبيين والعرب، فليس هناك ما يسمى فارسيّا مستقلا أو هنديّا أو يونانيّا أو إسلاميا أو عربيّا، بل هى ثقافة واحدة، وهى ثقافة تشمل أيضا ما عند أهل الكتاب، فكل الثقافات دينية ومدنية تستحيل إلى هذه الصورة الجديدة التى صاغها ابن قتيبة، بحيث خفت صوت الشعوبية، فكل ما كانت تفتخر به على العرب أصبح من صميم العربية. وصاغ ابن قتيبة ذلك فى أسلوب أدبى ناصع يمتاز بالوضوح وانتخاب الألفاظ الرصينة واستخدام الازدواج محاكاة للجاحظ أحيانا والاسترسال أحيانا أخرى. وقد يجرى السجع على لسانه، ولكن دون أى تكلف، ويتشبه بالجاحظ أحيانا فى نقل الواقع وفى خلط الجد بالهزل وإيراد بعض النوادر.

وسعيد بن حميد من أصل فارسى، عنى أبوه بتثقيفه والتحق بالدواوين وتألف نجمه فيها حتى أصبح رئيسا لديوان الرسائل فى عصر المستعين، وينصّ الطبرى على بعض ما كتبه من رسائل ديوانية، وكان يعنى أشد العناية بانتخاب ألفاظه وتقطيعها وتقابل الكلمات، وقد يتكامل التقابل والتقطيع حتى يصبح الكلام سجعا، وله بجانب رسائله الديوانية رسائل إخوانية بنفس الأسلوب الذى وصفناه، ونحس عنده دائما رغبة قوية فى النفوذ إلى أفكار مبتكرة، حتى لتصبح الرسالة ضربا من الحيل العقلية يروع بطرافته، مع دقة التعبير وجماله.

وأبو العباس بن ثوابة من أسرة أصلها مسيحى، عملت فى دواوين الدولة العباسية، وتميّز هو من بين أفرادها فى منتصف القرن الثالث الهجرى إذ التحق بدواوين الدولة، وما زال يصعد فى مراتبها حتى اختير لرياسة ديوان الرسائل، وله عهد طريف إلى أحد الولاة كتبه عن الموفق، وهو يصور فساد الحكم حينئذ، كما يصور عمل صاحب الحسبة، وله رسائل إخوانية مختلفة، يتضح فيها الحس المفرط والشعور الحاد كما يتضح السجع مضيفا إليه مادة تصويرية بديعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>