للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحقّا يكون عصر الدول والإمارات فى تاريخ الأدب العربى بذلك عصرا طويلا، غير أن طوله لا يعنى أى تفاصل روحى أو فكرى بين دوله وإماراته، فقد كان هناك دائما شعور عام فى كل مكان بأن هذه الإمارات والدول جميعا إنما هى وطن عربى واحد، وطن لاتحدث فيه الانقسامات أى تقاطع علمى أو أى تنابذ أدبى، وطن تتواصل أجزاؤه ووحداته تواصل الأفراد فى أسرة واحدة. ولذلك مظاهر شتى، فقد كان العلماء حين يؤلفون كتاب تراجم عامّا يجمعون فيه كل من عاشوا من النابهين فى هذا الوطن الكبير، وكانوا إذا ألفوا كتابا فى تراجم علم كالقراءات أو التفسير أو النحو أو حتى فى فرع كفقه الشافعية أو المالكية أو الأحناف أو الحنابلة جمعوا فيه علماءه فى جميع البلدان العربية، وبالمثل حين يؤلفون أحيانا فى تراجم الشعراء يجمعون فى مؤلفاتهم كل الشعراء فى جميع الأقاليم العربية، متناسين، بل مهملين، الفواصل السياسية والجغرافية بين الأقاليم والبلدان، وكأنها فى رأيهم أقواس وهمية فى المخطّطات السياسية والجغرافية، لا تدل أى دلالة على فوارق علمية أو أدبية. ومظهر ثان، هو أن الكتاب حين كان يؤلّف يصبح ملكا لعلماء العالم العربى جميعهم، فهم يشرحونه أو يشرحون شرحه أو يكتبون تقارير عليه، يشترك فى ذلك قاصيهم ودانيهم ومن فى أقصى المشرق ومن فى أقصى المغرب، ونضرب لذلك مثلا كتاب أو متن التلخيص فى علوم البلاغة للقزوينى الدمشقى المتوفى فى القرن الثامن الهجرى، فقد شرحه علماء من مصر ومن المغرب ومن أقصى المشرق، فهو ليس كتاب دمشق وحدها بل هو كتاب البلدان العربية جميعها. ونضرب مثلا ثانيا ديوان المتنبى فإنه لم يكد يبقى بلد عربى إلا وتجرّد له عالم من علمائه يشرحه ويعرض شرحه على الطلاب، ومن أهم شروحه شرح ابن جنى والعكبرى فى العراق وشرح ابن المستوفى فى إربل وشرح أبى العلاء المعرى فى الشام وشرح الواحدى فى إيران وشرح الإفليلى وابن سيده فى الأندلس، غير شروح أخرى، وغير دراسات نقدية لا تكاد تحصى، وكأن ديوانه ليس ديوان بلد بعينه، وإنما هو ديوان الأمة العربية جميعها. وليس ذلك فحسب، فإن ابن هانئ الأندلسى توفى بعده بنحو ثمانية أعوام، وقد درس شعره وتمثل منهجه تمثلا تامّا، بحيث كان ينظم أشعاره على غراره، وبحيث سماه النقاد متنبى الأندلس. وكل ذلك يصور بقوة وحدة الشعور والفكر فى هذا العصر المتطاول عصر الدول والإمارات، وهى وحدة ظل الشعر كما ظل النثر، وظل الأدب كما ظل العلم، مرآتها الصافية.

وقد بدأنا حديثنا عن الجزيرة العربية بعرض الحياة السياسية لأقاليمها الأساسية

<<  <  ج: ص:  >  >>