للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد عدّ القدماء هذا المطلع من مبتكراته، إذ وقف واستوقف وبكى وأبكى من معه وذكر الحبيب والمنزل، ثم أخذ يصور لنا كيف كان أصحابه يحاولون أن ينفّسوا عنه، وهو غارق فى ذكرياته وبكائه وإرسال دموعه وزفراته. وانتقل انتقالا سريعا يقص علينا مغامراته مع النساء، وكأنه يريد أن يستثير صاحبته فاطمة وأن يزرع الغيرة فى قلبها، فهو يذكر لها بعض صواحبه اللائى أبكينه وبرّح حبهن مثل أم الحويرث وأم الرّباب، ثم يفيض فى وصف يوم عنيزة مصورا كيف كان ينال منها وكيف كانت تدلّ عليه أحيانا، وفى أثناء ذلك يتعهر ولا يتستر، فيقول لعنيزة بيته المشهور:

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعا ... فألهيتها عن ذى تمائم مغيل (١)

ثم يعود فيبثّ فاطمة حبه مصورا دلالها، ومعاتبا لها عتابا رقيقا، فى تلك الأبيات البديعة:

أفاطم مهلا بعض هذا التدلّل ... وإن كنت قد أزمعت صرمى فأجملى (٢)

وإن كنت قد ساءتك منى خليقة ... فسلّى ثيابى من ثيابك تنسل (٣)

أغرّك منى أن حبك قاتلى ... وأنك مهما تأمرى القلب يفعل

وما ذرفت عيناك إلا لتقدحى ... بسهميك فى أعشار قلب مقتّل (٤)


(١) التمائم: جمع تميمة وهى العوذة تعلق على الصبى، المغيل: المرضع.
(٢) بعض هذا التدلل: أى كفى عن بعضه وأزمعت: عزمت، وأجمل التجمل وهو ترك ما يقبح.
(٣) سلى ثيابى من ثيابك: انزعى أمرى من أمرك، وتنسل: تسقط.
(٤) ذرفت العين: سال دمعها، الأعشار: القطع، يقول: ما بكيت إلا لتجرحى قلبا مكسرا.

<<  <  ج: ص:  >  >>