لطول السّرى وحار الدليل المرشد، وإذا النار أو قبس منها يظهر فجأة، فينادى صحبه:
رأيت نار ليلى فميلوا، وكلما جد فى السّرى إليها ودنا منها علت وارتفعت إلى أن امتدت بينه وبينها طلول محول، ويحاول الدنّو من الطلول وتحول بينه وبينها دموعه وزفراته الحارة.
ولا يجد فى الديار سوى العشاق، وهم كثيرون بين جريح ومغلول فى القيود وقتيل. وينزل بين قوم شغفهم الحب الربّانى، بل لقد صرعهم قبل أن ينتشوا به ويذوقوا خمره.
ويسلّم، ويقول إنه جاء يصطلى بالنار: نار الحب المشتعل، ويقولون له إن أحدا لا يبلغها ولا يصل إليها، فدونها أهوال وأمواج تجرفهم إلى طلولها. إنها نار تضيئ للسارى بالليل ولا تنال، ومنتهى الحظ أن يتزود اللحظ منها، وهم حيارى وقوف قد أصبحوا أشباحا ناحلة وأنفاسا متلاشية، وكلما ذاقوا كأس يأس مريرة لمعت لهم كأس رجاء حلوة، فيقولون: صبر جميل.
والقصيدة من أروع ما خلّف الصوفية على مر الحقب، وقد أنشدها بكمالها ابن خلكان، وقال إنما أثبتّها كاملة، لأنها قليلة الوجود وهى مطلوبة، ويقول العماد فى الخريدة: «وجدت من كلام القاضى المرتضى أبى محمد الشهرزورى رسالة سلك بها مسلك الحقيقة، وسبق أهل الطريقة، مشحونة بأبيات فى رقة السلسال والشّمول» وكأنه لم ينظم فى التصوف فحسب، بل كتب أيضا، غير أن العماد لم يعن بأن يروى شيئا مما كتبه، إنما عنى بما جاء فى الرسالة من رقائق الغزل الصوفى من مثل قوله:
وعاودت قلبى أسأل الصبر وقفة ... عليها فلا قلبى وجدت ولا صبرى
وغابت شموس الوصل عنى وأظلمت ... مسالكه حتى تحيّرت فى أمرى
والبيتان طريفان، فقد وقف بالديار فضاع منه قلبه وعزّ صبره، وغربت شمس الوصل وأصبحت جميع المسالك حوله مظلمة، وهو حائر لا يهتدى ولا يجد من ينقذه.
إنه محب مهجور قد حرم وصله وخطف منه أو أسر قلبه، ويقول:
يا ليل ما جئتكم زائرا ... إلا وجدت الأرض تطوى لى
ولا ثنيت العزم عن بابكم ... إلا تعثرت بأذيالى
فهو دائما على عتبات الباب لا يدخل ولا ينعم بوصل ولا لقاء، ويملّ الوقوف والانتظار، ولكنه لا يستطيع الإياب، كأنما شئ يمسك بتلابيه، فكلما حاول الانصراف وأعياه الانتظار ورغب فى الرجوع تعثر فى أذياله فتسمّر فى مكانه، ومن قوله:
شكوت إليها ما بقلبى من الجوى ... فقالت: وهل أبقى الفراق له قلبا