للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يا ليت شعرى إذا الأبدان أضمرها ... يد البلى وحواها التّرب والمدر

هل للنفوس التفات نحو عالمها ... كما تلفّت نحو المركز الحجر

ليحصل الفوز فى دار الخلود لها ... وتنتفى دونها الآفات والغير

أم تضمحلّ كما قد بان هيكلها ... ولا يحسّ لها ورد ولا صدر

هذا الذى صدئت منه خواطرنا ... وليس يجلو صداها العلم والخبر

والأبيات تعرض مشكلة خلود النفس بعد الموت، فهل تفنى كما يفنى الجسد، أو تنفصل عنه إلى عالمها: عالم الخلود، وهى مشكلة حارت فيها من قديم العقول، فهذا الجسم مادى محسوس يفنى بموت صاحبه، وهذه لا تحسّ ولا ترى إلا بأثرها وببثّ الحياة فى الجسم، حتى إذا فارقته انتقل إلى عالم العدم والفناء، فهل يكون مصيرها نفس مصيره، أو أنها تحيا حياة جديدة خالدة فى الملأ الأعلى. إنها مشكلة محيرة فى رأى أبى النفيس يطبق عليها ظلام غامر لا يرفعه علم ولا خبرة، والأبيات تمضى فتجعل علم الحقيقة بذلك للواحد الأحد. وإذا تصفحنا كتاب عيون الأنباء فى طبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة وجدنا به متفلسفين عراقيين كثيرين يجيدون نظم الشعر، مثل ابن التلميذ (١) المتوفى سنة ٥٦٠ ومن شعره فى ابنه سعيد:

حبّى سعيدا جوهر ثابت ... وحبّه لى عرض زائل

به جهاتى السّتّ مشغولة ... وهو إلى غيرى بها مائل

والجهات الست هى اليمين واليسار والأمام والخلف والأعلى والأسفل، يريد أنه مشغول بابنه بكل كيانه وكل عواطفه ومشاعره، وقد جعل حبه له جوهرا ثابتا بينما حب سعيد ابنه له عرض زائل، ومن قوله:

كانت بلهنية الشّبيبة سكرة ... فصحوت واستأنفت سيرة مجمل

وقعدت أرتقب الفناء كراكب ... عرف المحلّ فبات دون المنزل

والصورة فى البيتين بديعة، فقد صحا من سكرة الشباب واستأنف سيرة معتدل فاضل، وقعد ينتظر دوره ومماته، وكأنما هو راكب يعرف منزله ويبيت دونه بقليل، ولابد من الوصول. وكان ابن التلميذ يكثر من الشعر ومثله البديع الإصطرلابى وهبة الله ابن الفضل ومحمد بن المجلّى المعروف بالعنترى وابن هبل.


(١) انظر فى ابن التلميذ وشعره معجم الأدباء ١٩/ ٢٧٦ وابن أبى أصيبعة ص ٣٤٩ وابن خلكان ٦/ ٦٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>