أدب الدنيا، وباب فى أدب النفس، وكل باب ينقسم إلى فصول، وفى كل فصل تذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأشعار التى تحث على الفضائل وتنهى عن الرذائل.
وكان هذا الكتاب مقررا للمطالعة فى المدارس الثانوية وما أجدره أن يعود إليها لتربية النشء على الأخلاق القويمة. وتكثر كتب الأدب التهذيبى بعد هذا الكتاب ولكنها لا تبلغ مبلغه فى النفع والفائدة.
وتموج اليتيمة والخريدة بالرسائل الشخصية أو الإخوانية، وتتكاثر كثرة مفرطة، فى الشكر والثناء والتهنئة والعتاب والاعتذار والاستعطاف والتهادى والتعزية، وعادة تدور حول معان محدودة، ولكن الكتاب يتفننون فى تطويلها، وبذلك يستحيل المعنى الضئيل النحيل إلى ما يشبه خيطا أو حبلا تعلق عليه سجوف من السجع والجناس وفنون البديع تكدّس فيها أكداسا، وتكدّس معها تعقيدات بصور كثيرة تارة بجلب بعض المصطلحات العلمية وخاصة منذ القرن الخامس وما بعده، وتارة باتخاذ حرف واحد تبنى عليه الرسالة.
وللحريرى رسالتان إحداهما سينية كل كلماتها من ذوات السين، والثانية شينية كل كلماتها من ذوات الشين، وقد قلده الحصكفى (١) يحيى بن سلامة خطيب ميّا فارقين المتوفى سنة ٥٥١ فصنع رسالة سينية، وحاول الإغراب أكثر فصنع رسالة من الحروف المهملة وخطبة ليس فى حروفها حرف منقوط، وكان شغوفا بالجناس وصنع المنعكس منه بحيث تشتق كل كلمة من أختها على هذه الشاكلة:
«النفس بعقود التذرّع حالية، ولقعود التعذر حائلة، ومن الودائع المعجزة مالية، وإلى الدواعى المزعجة مائلة، وفى بحار الحمدراسية، وفى رحاب المدح سارية».
ويستمر بهذه الصورة، فكل كلمة فى السجعة الأولى تعود فى السجعة الثانية مقلوبة معكوسة فى هيئتها وبنيتها وصورتها، فعقود تتحول إلى قعود والتذرع إلى التعذر وحالية إلى حائلة. وهى مهارة تحيل الرسالة إلى ما يشبه العمل المطبعى الذى يؤدّيه عمال المطابع من جمع الحروف بعضها إلى بعض من أول الكلمة إلى آخرها تارة ومن آخرها إلى أولها تارة ثانية جمعا يصور مهارة، ولكنها مهارة لفظية أشبه باللعب. ونلتقى بمعاصر للحصكفى، هو الحيص بيص البغدادى المارّ ذكره بين الشعراء وفيه يقول العماد الأصبهانى:«له رسائل ومكاتبات معدول بها عن الفن المعتاد والأسلوب المعروف» يقول: وهى كثيرة، وسأورد
(١) انظر فى الحصكفى الخريدة (قسم الشام) ٢/ ٤٧١ وما بعدها والمنتظم ١٠/ ١٨٣ والسبكى ٧/ ٣٣٠ وابن خلكان ٦/ ٢٠٥ ومعجم الأدباء ٢٠/ ١٨ وكتابنا الفن ومذاهبه فى النثر العربى (الطبعة الثامنة بدار المعارف) ص ٣٠٤ وبدار الكتب المصرية نسخة مخطوطة من رسائله.