للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مثيلتها فى العصر العباسى، وربما كانوا ينظمونه تندرا ودعابة، أو تقليدا لأسلافهم، وهو تقليد بغيض. ومن الحق أن كثيرا من الشعراء نحّو هذا النوع المقيت عن غزلهم، مؤثرين أن يطبعوا أشعارهم بطوابع الغزل العفيف الطاهر الذى لا يعرف المتاع المادى للحب ولا اجتناء ثمراته من العناق وغير العناق، إنما يعرف نيرانه المحرقة كما يعرف الحب الظامئ الذى لا يروى صاحبه أبدا، فدائما فراق ودائما حنين واشتياق، ودعاء كما قال أبو العلاء الأسدى (١):

شتّتوا بالفراق شملى ولكن ... جمع الله شملهم أين كانوا

وكثير من هذا الغزل العذرىّ كان يصوغه العلماء والفقهاء صورة لطهارة نفوسهم ونقائها وما يتجشّمون فى الحب من آلام دون أن يشوب تفكيرهم شيئ من الغريزة النوعية، فقد تساموا عن الحسّ وكل ما يتصل بالحس. ويكثر فى هذا الغزل الحنين المستمد من حنين العذريين، الحنين إلى نجد وديار نجد مع الحسرات من الفراق والشوق إلى اللقاء. وربما لم يكثر من ذلك شاعر كما أكثر الأبيوردى، فقد جعل للنجديات أو الغزل النجدى العذرى قسما مستقلا من أقسام ديوانه الكبير، ومن نجدياته:

نزلنا بنعمان الأراك، وللنّدى ... سقيط به ابتلّت علينا المطارف (٢)

فبتّ أعانى الوجد والركب نوّم ... وقد أخذت منى السّرى والتّنائف (٣)

وأذكر خودا إن دعانى على النّوى ... هواها أجابته الدموع الذوارف

لها فى مغانى ذلك الشّعب منزل ... لئن أنكرته العين فالقلب عارف

وقفت به والدمع أكثره دم ... كأنى من جفنى بنعمان راعف (٤)

وعلى نحو ما يجعلون محبوبتهم نجدية يجعلونها ممنّعة، فحولها أسد يحمونها، بحيث لا يستطيع المحب الولهان أن يلقاها أو يقرب من حماها، فدونها الموت الزّؤام، وفى ذلك يقول الطّغرائى فى لا ميته (٥):

إنى أريد طروق الحىّ من إضم ... وقد حماه رماة الحىّ من ثعل

يحمون بالبيض والسّمر اللّدان به ... سود الغدائر حمر الحلى والحلل

فالحبّ حيث العدا والأسد رابضة ... حول الكناس لها غاب من الأسل

فهو يريد الإلمام بحى معشوقته فى إضم، فيرى دون ذلك أهوالا، فقد حماه رماة من


(١) اليتيمة ٣/ ٣٣٦.
(٢) نعمان: واد بين عرفات والطائف. الأراك: من أشجار البادية، المطارف: الثياب.
(٣) التنائف: المفازات. السرى: السير ليلا.
(٤) راعف: من الرعاف وهو الدم السائل من الأنف.
(٥) ديوان الطغرائى ص ٥٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>