وتصنع، على نحو ما نرى فى البيت الأول إذ حاول أن يستغل المثل:«عش رجبا تر عجبا» فقال إن شهور الممدوح كلها عجيبة، ومضى فى تصنعه، فماء دموعه يوقد جحيما فى حشاه وأجفان عينه تمطر ورقا أو دموعا كالفضة الصافية، بينما تنبت ساحة خده حين الوداع ذهبا، وحين رأى البغداديين يستبردون أشعاره انتقل إلى الكرخ وسكنها وخالط فضلاءها وسوقتها مدة، واقتبس من لغتهم وظرفهم، ثم أنشأ قصيدة استهلها بقوله:
هبّت علىّ صبا تكاد تقول ... إنى إليك من الحبيب رسول
سكرى تجشّمت الرّبى لتزورنى ... من علّتى وهبوبها تعليل
فاستحسنها البغداديون، وقالوا تغير شعره ورقّ طبعه. وظلّ ملازما الكندرى فى مدينة الرّىّ عاصمة طغرل عاملا فى دواوين الدولة، ومقدما له مدائح كثيرة، إلى أن قبض السلطان ألب أرسلان على الكندرى وأمر بقتله، وله مرثية فيه غير أنه يشيد فيها بقاتله، مما جعل القدماء يأخذون عليه عدم الوفاء. ويبدو أنه أخذ يعنى منذ ذلك بتأليف كتابه دمية القصر الذى نرجع إليه كثيرا، مذيّلا به على يتيمة الدهر للثعالبى، كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع. واستقال من عمله فى دواوين السلاجقة وأخذ يعيش عيشة لاهية ماجنة انتهت بمقتله فى إحدى ليالى أنسه سنة ٤٦٨ للهجرة. وكان ينظم، باللسانين العربى والفارسى، وله فى الفارسية قصيدة طويلة جعل عنوانها «طرب نامه» أو رسالة الطرب، وهى مؤلفة من رباعيات فارسية تتوالى بحسب الترتيب الهجائى للحروف. وكان ما يزال يحاول النفوذ إلى معان وصور غريبة نادرة، من ذلك قوله يصف شدة البرد وزمهريره.
كم مؤمن قرصته أظفار الشّتا ... فغدا لسكّان الجحيم حسودا
وترى طيور الماء فى وكناتها ... تختار حرّ النار والسّفّودا
وإذا رميت بفضل كأسك فى الهوى ... عادت عليك من العقيق عقودا
يا صاحب العودين لا تهملهما ... حرّق لنا عودا وحرّك عودا
والصور فى الأبيات تقوم على المبالغة الشديدة، فالمؤمن يحسد سكان الجحيم والطيور تؤثر لو تشوى على السفود. ولو رميت فى الهوى بفضل الكأس لتجمدت حبات الخمر وأصبحت عقودا. وينادى على المغنى أن يحرك عود طرب للغناء ويحرق عود حطب للصّلاء. وله غزليات رقيقة من مثل قوله:
قالت وقد ساءلت عنها كلّ من ... لاقيته من حاضر أو بادى
أنا فى فؤادك فارم طرفك نحوه ... ترنى فقلت لها وأين فؤادى
ففؤاده ليس عنده، بل هو عندها، إذ ضاع منه، وهى التى تعرف مكانه، وماذا