وكان ابن العميد مثقفا ثقافة واسعة بجميع علوم عصره حتى ليقول ابن مسكويه مؤرخ البويهيين المشهور:«كان أجمع أهل عصره لآلات الكتابة، حفظا للغة والغريب، وتوسعا فى النحو والعروض، واهتداء إلى الاشتقاق والاستعارات، وحفظا للدواوين من شعراء الجاهلية والإسلام. فأما القرآن وحفظ مشكله ومتشابهه والمعرفة باختلاف فقهاء الأمصار، فكان منه فى أرفع درجة وأعلى رتبة. . أما المنطق وعلوم الفلسفة والإلهيات منها خاصة فما جسر أحد فى زمانه أن يدّعيها بحضرته إلا أن يكون مستفيدا أو قاصدا قصد التعلم». ويقول ابن الأثير:«كان عالما فى عدة فنون، منها الأدب، فإنه كان من العلماء به، ومنها حفظ أشعار العرب فإنه حفظ منها ما لم يحفظ غيره مثله، ومنها علوم الأوائل فإنه كان ماهرا فيها، مع سلامة اعتقاد إلى غير ذلك من الفضائل، ومع حسن خلق ولين عشرة مع أصحابه وجلسائه، وشجاعة تامة، ومعرفة بأمور الحرب والمحاصرات، وبه تخرّج عضد الدولة، ومنه تعلم سياسة الملك ومحبة العلم والعلماء». ويقول ابن خلكان:
«كان متوسعا فى علوم الفلسفة والنجوم».
وكان-كما لاحظ ابن الأثير-يحسن قيادة الجيوش، وحقق للدولة انتصارات عظيمة، من ذلك انتصاره على محمد بن ماكان قائد الجيش الخراسانى سنة ٣٤٤ بعد أخذه لأصبهان واستيلائه على خزائنها، فقد اعترضه فى طريقه إلى الرى وهزمه هزيمة ساحقة. ومن ذلك انتصاره على ابن بلكا بشيراز سنة ٣٤٥. وخرج فى سنة ٣٦٠ لقتال حسنويه الكردى، ولكن المنية أدركته دون غايته، وكان عمره يزيد قليلا على ستين عاما. وظل وزيرا ثلاثا وثلاثين سنة. وكان مقصد الشعراء والأدباء يجزل لهم الصلات، وقصده أبو الطيب المتنبى بأرّجان، فاستقبله استقبالا حافلا، وفيه يقول:
عربىّ لسانه فلسفىّ ... رأيه فارسيّة أعياده
ويشيد كل من ترجموا له ببلاغته، وفى ذلك يقول الثعالبى:«أوحد العصر فى الكتابة وجميع أدوات الرياسة وآلات الوزارة، والضارب فى الآداب بالسهام الفائزة، والآخذ من العلوم بالأطراف القوية، يدعى الجاحظ الأخير والأستاذ والرئيس، يضرب به المثل فى البلاغة، وينتهى إليه فى الإشارة بالفصاحة والبراعة، مع حسن الترسل وجزالة الألفاظ وسلاستها إلى براعة المعانى ونفاستها. وكان يقال: بدئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد». ومن يقرأ ما اقتبسه الثعالبى من كتاباته يؤمن بأنه هو الذى أعطى الكتابة فى عصر الدول والإمارات صيغتها التى ظلت الأجيال المتوالية تستخدمها، وهى صيغة قامت على أساسين كبيرين: أولهما السجع، وكان السجع معروفا من قبله فى