الموضوعات، بل جعلها تدور على موضوع واحد، هو الكدية أو الشحاذة الأدبية، وكأنه استلهم فيها حديث الجاحظ عن المكدين فى أوائل كتابه «البخلاء» وكذلك حديث البيهقى عنهم فى كتابه «المحاسن والمساوى» ويعرض الجاحظ والبيهقى لأساليبهم وحيلهم فى استخلاص الطعام والدراهم والدنانير من الناس. وكان هؤلاء الأدباء الشحاذون قد لمعت أسماؤهم فى عصر بديع الزمان، ومرّ بنا حديث مفصل عنهم وعن شعرائهم فى هذا القسم الخاص بإيران وأيضا فى القسم الخاص بالعراق. وكل ذلك ألهم بديع الزمان صنع مقاماته، ونراه فى أولاها يتمثل بأبيات كبير المكدين أبى دلف الخزرجى، وقد أنشدناها فى حديثنا السابق عنه، إذ يقول:
ويحك هذا الزمان زور ... فلا يغرنّك الغرور
ويسمى إحدى مقاماته المقامة الساسانية نسبة إلى هذه الطائفة من المكدين أو الأدباء الشحاذين، إذ كانوا يسمون بالساسانيين نسبة إلى ساسان، وهو-كما أسلفنا-أمير فارسى هجر إمارته وهام على وجهه محترفا للكدية.
وتنقّل بديع الزمان بأبى الفتح الإسكندرى بطل مقاماته فى بلدان مختلفة مما دفعه إلى أن يسمى أكثر المقامات بأسماء البلدان التى ألمّ بها وأكثرها بلدان فارسية. وفى أحوال قليلة تسمى باسم الحيوان الذى وصفه فيها مثل المقامة الأسدية نسبة إلى الأسد، أو باسم الأكلة التى طعمها أبو الفتح مثل المقامة المضيرية نسبة إلى طعام المضيرة، وهى لحم يطبخ باللبن المضير أى الحامض. وتسمى باسم موضوعها مثل الوعظية نسبة إلى الوعظ والإبليسية نسبة إلى إبليس والقريضية نسبة إلى ما فيها من أحكام أدبية على الشعر والشعراء. وسمى مقامة باسم المقامة الجاحظية نسبة إلى الجاحظ، وهو يقول عنه إنه قليل الاستعارات وينفر من الغريب والكلام المصنوع، ولعله يقصد الكلام المسجوع الملئ بالجناس وما إليه من المحسنات البديعية. وتخلو المقامات الخمس المتصلة بخلف بن أحمد من الكدية، إذ هى مديح خالص له. أما بقية المقامات فكما قدمنا تدور على الكدية أو الشحاذة الأدبية عن طريق التفاصح البيانى وما ينصبه أبو الفتح من حيل وشباك لسلب أموال الناس. وفى تضاعيف ذلك يعرض البديع مجتمعه بكل ما فيه من مساجد وحمامات ومارستانات وحوانيت ومطاعم وحانات وموائد وما يتصل بها من الأوانى فى بيوت الأغنياء والفقراء.
ويعرض فى المقامة النيسابورية صورة لفساد القضاة والقضاء فى بعض البلدان. وقد حمل فى المقامة المارستانية حملة عنيفة على المعتزلة، لأنه كما قدمنا كان أشعريّا، وكانت