الديوان وتختار له كتّابا بلغاء، حينئذ ازدهرت كتابة الرسائل الديوانية فى زمن الدولتين الأيوبية والمملوكية. ومنذ العتّابى فى أوائل القرن الثالث تنشط كتابة الرسائل الشخصية، وللببّغاء كاتب سيف الدولة فيها رسائل بديعة، وما يلبث أبو العلاء أن يهدى إلى قراء العربية رسائله الشخصية الفذة، وتكثر تلك الرسائل بعده-طوال العصر-شاكرة أو مهنئة أو معاتبة أو معزّية، وهى-مثل الرسائل الديوانية تعتمد دائما على السجع والمحسنات البديعية. ويكثر الكتاب من صنع المقامات غير أنها لا تعتمد على أديب متسول وحيله الكثيرة وما يطوى فيها من حركة درامية كما كان الشأن عند الحريرى فى مقاماته، وإنما تعتمد غالبا على الوصف أو المناظرة بين أشخاص أو بين أزهار أو ثمار، وهى بذلك أشبه برسائل مطولة. وتتكاثر كتب المواعظ، ومن أروعها كتاب الفصول والغايات لأبى العلاء، وجميعه تسبيح وتحميد وتمجيد فى الله العلىّ العظيم، ويجرى ابن غانم على لسان الطيور والأزهار حكما بديعة.
ولأدباء الشام أعمال نثرية رائعة، فى مقدمتها رسالة الغفران لأبى العلاء، وقسمها الأول يصور أهوال المحشر والصراط ونعيم الجنة وعذاب النار، وقد ألهم هذا القسم-بشهادة المستشرقين-دانتى الشاعر الإيطالى كتابه «الكوميديا الإلهية». ومن الأعمال النثرية القيمة رسالة النسر والبلبل لابن حسان الدمشقى وفيها يسأل النسر البلبل عن السر فى جمال صوته وسحره، ويدور بينهما حوار بديع. ومن تلك الأعمال كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ وهو أشبه بترجمة شخصية يصف فيها زيارته لمصر أيام الفاطميين وتنقلاته بين حملة الصليب لزمنه، ومنها كتاب نسيم الصّبا لابن حبيب فى وصف الطبيعية والأخلاق الاجتماعية، وكتاب فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء لابن عربشاه، وفيه يتناول كثيرا من شئون الحياة والسياسة والتربية.
وواضح أننى عرضت فى صحف هذا الجزء تاريخ الأدب العربى فى الشام طوال عصر الدول والإمارات مع بيان تاريخها منذ الفتح العربى وبالمثل صورة مجتمعها والنشاط الثقافى والعلمى بها مسترشدا بمصادر ومراجع كثيرة، ولا أزعم أننى صوّرت ذلك كله تصويرا تاما، وإنما حاولت بقدر ما استطعت. والله ولىّ الهدى والتوفيق.