إلى أن الداء إنما يكمن فى تفرق البلدان الإسلامية المجاورة لحملة الصليب شيعا ودولا، فصمم أن يجمع قوتها وكلمتها تحت لوائه، وكان قد ركز لواءه على الموصل أولا، فضم إليه حلب ومدن شمالى الشام مثل حماة وحمص وبعلبك. ومضى ينازل الصليبيين واستولى منهم على معرّة النعمان وكفر طاب. ولم يلبث أن ضربهم ضربة قاصمة باستيلائه على مدينة الرّها سنة ٥٣٩ للهجرة.
وبذلك محا عار هذه الإمارة التى أقامها الصليبيون فى بلب الدولة السلجوقية. ولم تكد تمصى سنتان على ما حقق من هذا المجد البطولى حتى أمتدت إلى جثمانه الطاهر أيد آثمة فى الظلام سفكت دمه الزكى.
وكان قد أوصى عماد الدين زنكى لابنه غازى بالموصل ولابنه نور الدين محمود بحلب، واقتفى البطل الشاب نور الدين جهاد أبيه للصليبيين، ونازلهم توّا سنة ٥٤٢ وأخذ منهم حصن أرتاح من أعمال حلب، وأبطل فى إمارته أذان الدولة الفاطمية بحىّ على خير العمل. وفى سنة ٥٤٤ هزم حملة الصليب هزيمة ساحقة إذ قتل منهم ألفا وخمسمائة وفتح حصن فامية، واستولى على دمشق سنة ٥٤٩ كما مر بنا. وفى سنة ٥٥٢ ملك حصن شيرز بعد أن نقضه زلزال شديد. وفى سنة ٥٦٠ فتح بانياس عنوة. وكان بعيد النظر بعدا جعله يرى أن المفتاح الحقيقى للنصر على حملة الصليب هو مصر بإمكاناتها فى المال والرجال ولكن ماذا يصنع وبها دولة منهارة، وأحسّ أن حملة الصليب يشعرون أنها لقمة سائغة وخاف عليها منهم خوفا شديدا. ولم تلبث أن واتته فرصة عظيمة فإن وزيريها ضرغاما وشاور تحاربا، ولجأ إليه شاور مستغيثا، فأنجده بأميرين أيوبيين: شيركوه وابن أخيه صلاح الدين، ويحدثهما بما فى نفسه من تخليص مصر من دولتها المريضة. وتتطور الظروف وتصبح مصر خالصة لصلاح الدين ويؤسس بها الدولة الأيوبية ومؤسسها الحقيقى ومنشئها إنما هو نور الدين. وكان ما ينى ينازل حملة الصليب، وفتح حصون «مرعش وإعزاز وحارم» وغير ذلك مما تزيد عدته على خمسين حصنا. وكان ملكا عادلا عابدا زاهدا ورعا، بنى كثيرا من المدارس فى بلدان الشام الكبار وكثيرا من الجوامع وبيمارستان دمشق وبها توفى سنة ٥٦٩ وخلفه ابنه وكان صبيا وبقى على حلب حتى توفى سنة ٥٧٧ ودخلت فى حوزة صلاح الدين وحكمه.