للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويذكر انتصارات صلاح الدين المتلاحقة على حملة الصليب فى بيسان وغير بيسان، وتتراءى له مدن الساحل الشامى، وهى تنتظر مخلصها ومنقذها من الظلمة الأشرار، وإن القدس ليكاد يطير فرحا فقد أصبح وشيك الخلاص، وفعلا لم تمض شهور حتى فتحت أبوابه لصلاح الدين وعاد، وعاد معه المسجد الأقصى إلى الإسلام والمسلمين، وإنه ليصيح مبتهجا فرحا:

لقد ساغ فتح القدس فى كلّ منطق ... وشاع إلى أن أسمع الأسل الصّمّا (١)

فليت فتى الخطّاب شاهد فتحها ... فيشهد أن السهم من يوسف أصمى

حبا مكة الحسنى وثنّى بيثرب ... وأطرب ذيّاك الضريح وما ضمّا

وأصبح ثغر الدين جذلان باسما ... وألسنة الأغماد توسعه لثما

لقد فتح القدس عنوة، وإن قعقعة السلاح لتكاد تسمع الصّمّ، وقد عاد المسجد وعادت فيه الصلاة وتكبيرات المصلين وأذان المؤذنين. ويقرن فتح صلاح الدين للقدس فتحا حربيّا بفتح عمر بن الخطاب لها من قبل سلما. ويصور ابتهاج مواطن الوحى فى مكة ويثرب وابتهاج الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الفتح المبين، وكيف عمت البهجة والفرحة القدس ثغر الدين، وكأنما ألسنة الأغماد تعانقه وتقبله: تقبل كل ركن فيه. وله وراء هذه القصائد فى صلاح الدين ست عشرة قصيدة. ونراه بعد وفاته يلزم ابنه نور الدين صاحب دمشق فيمدحه بقصائد مختلفة، غير أنه أخذ يتبرم بالشام وبمن حول نور الدين كما يتضح من قوله فى مدحة له:

أبكتنى الأيام مذ ضحكت ... لى عن نيوب نوائب عصل (٢)

أفسدن خلانى فمالى فى ال‍ ... سّرّاء والضّراء من خلّ

وكان هذا الشعور بأنه لم يعد له صديق وفىّ فى موطنه سببا فى أن يشدّ رحاله إلى القاهرة فينزل بها ويتخذها دار مقام له حتى وفاته سنة ٦٠٤ وشعر فيها بأنه حياته أصبحت رغدة ناعمة وذكر ذلك مرارا فى شعره، وكان قد وطد علاقاته بكثيرين من كبار رجال الدولة، وفى مقدمتهم القاضى الفاضل وله فيه اثنتا عشرة قصيدة. وبمجرد أن وضع قدمه فى القاهرة أصبح من ندماء العزيز عثمان بن صلاح الدين حتى وفاته سنة ٥٩٥ وله فيه أكثر من ثلاثين مدحة. وربما كانت أيام العزيز أسعد أيامه بمصر. وهو يصور فى مديحه منادمته له ومجالس أنسه. وله مدائح فى السلطان


(١) الأسل: الرماح والسيوف.
(٢) عصل: معوجة كأنياب الأسد

<<  <  ج: ص:  >  >>