أتيح له الورود، فظمؤه ولهفته القديمان لا يبرحان ذاكرته، وهل فى الحب إلا صدّ وامتناع وعذاب، والمحب يصلى الروعة بعد الروعة واللوعة بعد اللوعة، ويقول إنه مفعم بالتجارب كما يفعم الإناء بالماء، وينشد:
أرى اليأس عزّا والرّجا ذلّة الفتى ... وطول المنى عجزا وحبّ الغنى فقرا
فلا تضجرن من حالة مستحيلة ... كما نلتها عسرا ستتركها يسرا
وإن الفتى كالغصن مادام نابتا ... فآونة يكسى وآونة يعرى
وهو يرى اليأس من الناس وتحقيق الآمال لا إحدى الراحتين فحسب، بل عزّا ما بعده عز، كما يرى الرجاء وخاصة فى الناس ذلا ما بعده ذل، واتساع الأمانى عجزا لا يشبهه عجز، والتطلع إلى الغنى فقرا لا يماثله فقر. فخير للانسان أن يقنع وأن يرضى من دنياه بالكفاف. ويوصيه أن لا يضجر من شدة تنزل به لانها لا بد أن تستحيل وتتحول، فكل عسر معه يسر، وما أشبه الإنسان بغصن شجرة يعرى من الأوراق ويكسى بها كل عام. ويقول:
إن خصّنى بالبؤس دهرى دائما ... دون الورى فأنا بذلك أفضل
هذى عقاقير العطارة كلّها ... لم يحترق منهن إلا المندل
فهو يتقبل البؤس راضيا ويتعلل لبؤسه بأنه أشبه ما يكون بالمندل أو العود الطيب الرائحة فإنه يحرق وحده دون ما عند العطار من صنوف عطارة كثيرة. ويتردد فى أشعاره ذكر الحرمان وأن الكريم لا تضره قلة المال بينما اللئيم لا يجديه ولا ينفعه الثراء، ويحاول أن يجد له ولأمثاله من الأدباء والفضلاء تعلّلات للتضييق على نفر منهم فى الرزق بمثل قوله:
لا تحسب الأرزاق تقسم باطلا ... كلا لقد ساوى المهيمن بينها
فإذا رزقت الجهل أدركت المنى ... وإذا حرمت الجدّ أعطيت النّهى
وكأن أهل الأرض فى رأيه اثنان: جاهل ثرى له كل ما يأمل ويتمنى وكأن الدنيا طوع أمره، وعاقل (أديب أو عالم) فقير حرم الجدّ أو الحظ وحرم معه إكسير الحياة من المال والثراء والنعيم.
ويقول:
غير بدع إذا ظلمت بدهر ... رزق الغمر فيه حظّا عظيما
فالهواء الصحيح يدعى عليلا ... واللّديغ المصاب يدعى سليما