كافيا. يضاف إلى ذلك أن تحليل آثار الأدباء وتقويمها ليس عملا سهلا، لكثرة ما يداخلها من عناصر الحياة والفن المتشابكة، ولأنها تتألف من معان وأساليب جميلة، وهى لا تخضع خضوعا مطلقا لقواعد العلم وقوانينه، حقّا تخضع للطريقة العلمية، ولكن باستمرار تظل فيها جوانب خاضعة للذوق ونفاذ البصيرة والإحساس المرهف. وذلك كله مما يضاعف الجهد على من يريد تأريخ أدبنا العربى تأريخا مفصلا دقيقا على اختلاف عصوره وتفاوت بيئاته، غير أنه يضاعف فى الوقت نفسه لذّته فيه، إذ يرى أمنيته فى إتقان عمله بعيدة عسيرة، لا يمكنه بلوغها إلا بشق النفس، فيجدّ ويلحّ، ويمضى فى الجدّ والإلحاح، حتى يظفر بما يريد، مؤمنا بأنه لا يقول الكلمة الأخيرة فيما يبحثه، إذ البحث الأدبىّ لا يعرف الكلمة الأخيرة فى مسألة من مسائله.
ومعنى ذلك أن هذا الجزء من تاريخ أدبنا العربى الخاص بالعصر الجاهلى -والذى ستتلوه أجزاء أخرى تتناول بقية عصور هذا التاريخ-لا أزعم أنه يحمل إلى القراء الصورة الأخيرة لهذا العصر، كما لا أزعم أن الأجزاء التالية ستحمل الصورة الأخيرة للعصور المتعاقبة. وإنما أزعم أن هذه الصورة هى التى استطعت رسمها مع ما بذلت من جهد واصطنعت من نهج وتحرّيت من دقّة، وقد يأتى بعدى من يعدّل فى جانب من جوانبها بما يهتدى إليه من حقائق أدبية غابت عنى فى بعض العصور أو بعض البيئات والشخصيات الأدبية. وتلك طبيعة الأبحاث يكمل بعضها بعضا ولا تزال فى نمو مطرد. والله أسأل أن يلهمنى السداد فى القول والفكر والعمل، وهو حسبى، ونعم الوكيل.