فهو يصل بين رضاب الثنايا فى ثغر صاحبته وبين المياه العذبة الحلوة، ويجعل الحمرة على وجنتيها وردا تنتقب به. وهو بعد فى التصوير. ويجعلها غزالا من نوع غريب، فهى غزال لا يصاد، بل يصيد بشباك لحظه، وإنه ليخلب القلوب فتلبيه طائعة مستجيبة.
وقد استهلم ابن خفاجة هذا الجانب فى غزل عبد المحسن الصورى واستضاء به، كما استضاء واستلهم فى أشعار أخرى له جانبا ثانيا فى غزل عبد المحسن، ونقصد جانب الرقة والدمائة والنعومة على نحو ما نجد فى قوله:
أترى بثار أم بدين ... علقت محاسنها بعينى
فى لحظها وقوامها ... ما فى المهنّد والرّدينى
وبوجهها ماء الشبا ... ب خليط نار الوجنتين
بكرت علىّ وقالت اخ ... تر خصلة من خصلتين
إما الصدود أو الفرا ... ق فليس عندى غير ذين
فأجبتها ومدامعى ... منهلّة كالمرزمين (١)
لا تفعلى إن حان ص ... دّك أو فراقك حان جينى
وكأنما قلت اذهبى ... فمضت مسارعة لبينى
والأبيات تسيل رقة وعذوبة، مما يجعلها تطير من الفم بخفة طيرانا لرشاقتها ونعومتها، والألفاظ مختارة اختيارا دقيقا، وبالمثل موسيقاها الخفيفة المقتطفة من وزن الكامل المجزوء. وكان يعرف كيف يختار موسيقاه ولحونها وأنغامها، وكيف يختار لها الألفاظ التى تمكن لها بحلاوتها وعذوبتها فى الآذان، بل فى القلوب والأفئدة. ويقول فى صدغ شعر مرسل بين أذن صاحبته ووجنتيها وقد توقف مائلا منحنيا:
جنى ما جنى وانصرف ... وأنكر ثم اعترف
سلوا صدغه لم جرى ... ولما جرى لم وقف
وكان على أنّه ... يجوز المدى فانعطف
وهو تصوير بديع لهذا الصدغ وانعطافه ذات اليمين أو ذات اليسار دون استرساله، وكأنه لجماله وحسنه كان ينتظر أن لا ينعطف، وقد بث فيه حركة طريفة فهو يجرى ثم يقف، وهو يسترسل ثم
(١) المرزمان: نوءان شديدا المطر