للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو يتمنى لو غيّب التراب مع شقيقته وصنو روحه حبالها ووفاء، ويأسى لنفسه أنه لم يستطع أن يرد عنها سهام المنية التى أصابتها فى الصميم تحت بصره، ولم يعد يملك لها إلا دموعا منهمرة ويتمنى أن لا يتوقف انهمارها، لعلها تشقى غلّة نفسه وحرقة فؤاده ويقول لو أن الرزء فيها يرد إلى أخته الحياة لما كان له فى حياته أرب ولقدّم روحه فداء لها.

ولأبى العلاء مرثية رائعة لأمه، وكان قد بلغه نعيها وهو فى طريقه إليها من العراق، ويقول فى مطلعها إنه سمع بداهية أصمّت أذنه وصكّت سمعه، ويأسى أن تتقدمه إلى الموت، ويعظم أن يرثيها بلفظ يمر بلسانه ويسلك مسالك الطعام، ويقول إن ألفاظ رثائه تحطم نواجذ أضراسه فضلا عن مقادم أسنانه، وينشد (١):

ومن لى أن أصوغ الشّهب شعرا ... فألبس قبرها سمطى نظام

مضت وقد اكتهلت وخلت أنى ... رضيع ما بلغت مدى الفطام

فياركب المنون أما رسول ... يبلّغ روحها أرج السّلام

ذكيّا يصحب الكافور منه ... بمثل المسك مفضوض الختام

وهو يكبرها عن أن يرثيها بألفاظ، إذ هى جديرة بأن يصوغ لها النجوم الساطعة عقود رثاء تزين جدثها الطاهر، ويحس فى عمق-وهو فى سن الكهولة-كأن السنوات الطويلة التى فصلته عن صدر أمه من القصر ليست إلا أياما قصيرة إذ لا يزال يشعر كأنه رضيع فقد أمه، وهو فى حاجة شديدة إليها، رضيع ضاع أى ضياع. ويتوسل إلى قوافل المنون التى تسرى فى ليل الأبدية أن تحمل منه إلى أمه سلاما ذكيا عطرا ينتشر أريجه من حولها ويسطع سطوعا. ويقول الماهر الدمشقى المتوفى سنة ٤٥٢ فى مرثية له (٢):

برغمى أن أعنّف فيك دهرا ... قليلا فكره بمعنّفيه

وأن أرعى النجوم ولست فيها ... وأن أطأ التّراب وأنت فيه

ويقول الباخرزى تعليقا على البيتين: «هذا أرقّ ما يكون فى المراثى، إذ يكاد يفجّر عيون الأحجار، فتسيل بمدود الأنهار، بل بأمواج البحار».

وتنشب الحروب الصلبية، وفى بعض حملات آبق أمير دمشق على حملة الصليب سنة ٥٠١


(١) سقط الزند ٤/ ١٤٥٩
(٢) دمية القصر ١/ ١٥٨

<<  <  ج: ص:  >  >>