للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد يظنّ أن طول هذا العصر دفع إلى شئ من التقاطع الأدبى أو العلمى بين دوله وإماراته، وهو ظن مخطئ، فقد كان بين شعوبها جميعا تواصل لا ينقطع أشبه بتواصل ذوى الأرحام: تواصل في العادات والتقاليد والمعيشة والدين والأدب والعلم، واستشعر ذلك أسلافنا إلى أقصى حد، فكانوا إذا ألفوا كتابا عن الشعراء مثلا ساقوا فيه شعراء العالم العربى جميعا كما في اليتيمة للثعالبى والخريدة للعماد الأصبهانى، وبالمثل إذا ألفوا كتابا عن القرّاء أو المفسرين أو المحدثين أو عن صنف من الفقهاء كالشافعية أو عن النحاة. ودأبوا منذ القرن الثامن الهجرى يجمعون في القرن علماء العالم العربى وأدباءه جميعا في كتب مرتّبين فيها ترتيبها أبجديا بحيث نستطيع أن نؤرخ في كل قرن للحركتين الأدبية والعلمية في أى قطر عربى، ومعنى ذلك أنه ظلت تربط بين الأقطار العربية طوال عصر الدول والإمارات والأزمنة قبله وحدة أدبية وجدانية، وعلمية عقلية.

وقد بدأت في هذا الجزء بعرض تاريخ مصر السياسي، وأقدم الأزمنة التى خطّها التاريخ بها زمن الخلفاء الراشدين وماتلاه سريعا من زمن الأمويين، وفيهما أخذ الدين الحنيف ينتشر في مصر ويعتنقه كثيرون من سكانها القبط. ويحكمها ولاة من قبل العباسيين ويدخلها مع جنودهم كثير من العناصر الفارسية. وتستشعر مصر استقلالها السياسى منذ أواسط القرن الثالث الهجرى في عهد الطولونيين، وبالمثل في عهد الإخشيديين. وتستولى عليها الدولة الفاطمية وتنشئ فيها خلافة شيعية مستقلة عن خلافة العباسيين ببغداد، وتبوء جميع محاولاتها بنشر عقيدتها الإسماعيلية الشيعية بين المصريين بإخفاق ذريع. ويمتد حكمها أكثر من مائتى عام، وتأخذ في الضعف بعد نحو قرن وينزل حملة الصليب الشام في أواخر القرن الخامس الهجرى ويستولون على بيت المقدس. ويغطّ خلفاؤها في نوم عميق إلى أن قيّض الله لمصر صلاح الدين الأيوبي، فأسّس بها الدولة الأيوبية، وأخذ يسحق ضلوع حملة الصليب في حطّين وغير حطّين، وتبعه خلفاؤه الأيوبيون ينزلون بهم ضربات قاصمة. ويخلفهم المماليك، وينازلون المغول في عين جالوت ويمزقون جموعهم، وتفرّ فلولهم على وجوهها إلى الشمال، ويطهّرون الشام من تلك الفلول ومن بقايا حملة الصليب ورجسهم. ويدور الزمن دورات، وينزل العثمانيون مصر، وتتحول من دولة ذات سلطان عظيم إلى ولاية عثمانية.

ويحيل النّيل مصر من قديم إلى جنات وزروع وغروس شتى، وأهّلها ذلك لرخاء

<<  <  ج: ص:  >  >>