للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كيف لى بالسلوّ عنه وطىّ ال‍ ... قلب من فقده جوى منشور

فسقى قبره نداه ففيه ... لثراه غنّى ورىّ غزير

وهو شديد اللوعة على ابن عمه وصديقه، ولذلك يخلط ندبه بتأبينه، إذ فقد البدر الذى كان ينير فى دجى خطوب الدهر وكوارثه، وإنه ليندب للشعر شاعره المبدع الذى كان ينسج خيوطه نسجا محكما، وكأنما فقد كل نعيم فى دنياه وكل خير، حتى ليتمنى الموت، إذ لم يعد له بقاء بعده، ولا عاد يعرف كيف السلوان عنه، وقلبه منطو على نار من الجوى لا تخبو ولا تهدأ، وإنه ليذكر نداه وكرمه الذى طالما أغدقه على من حوله، ويدعو الله أن ينزله على جدثه شآبيب رحمة.

ويروى العماد لابن عرام قصيدة بل مناحة كان ينوح بها أهل أسوان على المقابر نادبين موتاهم باكين، استهلها بقوله:

الرّدى للأنام بالمرصاد ... كل حىّ منه على ميعاد

كيف يرجى ثبات أمر زمان ... هو جار طبعا على الأضداد

فإذا سرّ ساء حتما ويقضى ... بوجود إلى بلىّ ونفاد

فالموت غاية كل حى، والناس جميعا يسقطون فى قراره العميق، لكل منهم موعده لا يتقدم عنه ولا يتأخر، ويالها من سخرية للزمان، فإنه لا يبقى للإنسان على شئ، وحتى لو سرّه يوما لساءه يوما أو أياما، وإنه ليسلبه كل ما أعطاه حتى وجوده وحياته. ويمضى فى نفس القصيدة أو المرثية قائلا:

نحن فى هذه الحياة كسفر ... ربما أعجلوا عن الإرواد (١)

عرّسوا ساعة بها ثم نادى ... بالرحيل المجدّ فيهم مناد (٢)

كم أب واله بثكل بنيه ... كم يتيم فينا من الأولاد

يدّعى المرء إرث أرض ودار ... سفها غير لائق بالسّداد

وهو موروثها إذا كان يبقى ... وهى تبقى على مدى الآباد

وقصاراه أن يشيّع محمو ... لا بأكفانه على الأعواد


(١) الإرواد: الإمهال.
(٢) عرسوا: نزلوا آخر الليل للراحة.

<<  <  ج: ص:  >  >>