للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نار إلى النار دعا شربها ... وشرّدت بالعقل والكيس

فى روضة كانت أزاهيرها ... كأنها ريش الطواويس

وهو يحتسيها مع رفاقه فى بستان دير، وهو يعبّ منها متمليا بجمال الطبيعة، وهى تجلى عليهم عروسا رشيقة معتقة، كأنما لم يبق منها عتقها إلا شعاعا يفرّج الهموم حين يمسّ الحلوق، وإنها لذات ثغر باسم بما يطفو عليها من حباب، وابن قادوس يشربها وهو غير ناس أنها محرمة وأنه يتناولها من يد إبليس، وكأنه آمل فى عفو ربه. وعلى نحو ما كان يمزج بين الخمر والطبيعة، محتسبا كئوس النشوة منهما جميعها، كذلك كان يمزج بينها وبين الغزل فى مثل قوله:

وليلة كاغتماض الطّرف قصّرها ... وصل الحبيب ولم تقصر عن الأمل

بتنا نجاذب أهداب الظلام بها ... كفّ الملام وذكر الصّدّ والملل

وكلما رام نطقا فى معاتبتى ... سددت فاه بطيب اللثم والقبل

وبات بدر تمام الحسن معتنقى ... والشمس فى فلك الكاسات لم تفل (١)

فبتّ منها أرى النار التى سجدت ... لها المجوس من الإبريق تسجد لى

راح إذا سفك النّدمان من دمها ... ظلّت تقهقه فى الكاسات من جذل (٢)

فقل لمن لام فيها إننى كلف ... مغرى بها مثل ما أغريت بالعذل (٣)

والخمرية بديعه يصوّر فيها ابن قادوس ليلة من أروع ليالى وصاله، يعاتب فيها صاحبته مصرحا بما اقتطفا فيها من أزهار الوجد والوله والصبابة، بينما شمس الخمر تتفلّت أشعتها من أفلاكها فى الكئوس مشرقة غير غاربة، ويشعر كأنها نفس النار التى طالما سجد لها المجوس تسجد له حين تصب من إبريقها فى كأسه، ويعجب أن يسفك دمها الشارب فتسيل من الدن إلى كأسه غير محزونة، بل مستبشرة، بل ضاحكة مقهقهة لشدة فرحها وسرورها. ويقول لعاذله فى شربها كفى عذلا، فإننى مولع بها ولوعك باللوم والعذل. وحسبنا هذه الخمرية وسابقتها لندل على تفوق ابن قادوس فى تصوير الشغف بالخمر إما حقيقة وإما محاكاة لشعراء بغداد من أمثال أبى نواس ومعاصريه.


(١) تفل: تغرب.
(٢) جذل: سرور.
(٣) العذل: اللوم.

<<  <  ج: ص:  >  >>